الفصل الثاني- ولادة المفهوم: نهاية القرن العشرين – نهاية الحداثة:

ولادة المفهوم: نهاية القرن العشرين – نهاية الحداثة:

لقد انتهى القرن العشرون، لكننا الآن فقط و حقًا بدأنا في إدراك وفهم هذه الحقيقة. كان القرن العشرون قرن الأيديولوجيات. فإذا كان كل من الدين والسلالات الحاكمة و النبلاء وكبار الملاك والطبقات والدول القومية في القرون السابقة قد لعبوا دورًا كبيرا في حياة الشعوب والمجتمعات، إذاً، فانه في القرن العشرين، قد تحولت السياسة إلى دنيا الأيديولوجية البحتة، بعد أن أعادت رسم خريطة العالم و الأعراق والحضارات بطريقة جديدة. فمن ناحية، مثلت الأيديولوجيات السياسية نزعات حضارية مبكرة و عميقة الجذور؛ و من ناحية أخرى، كانت مبدعة تمامًا.
ان كل الأيديولوجيات السياسية، التي بلغت ذروة سيطرتها ونفوذها في القرن العشرين، كانت نتاج كل ما هو جديد في العصر الحديث، بحيث جسدت روح الحداثة، وإن كان ذلك بطرق مختلفة وتحت رموز متفاوتة. اما اليوم، فنحن نترك هذا العصر بسرعة. وهكذا يتحدث الجميع، أكثر فأكثر، عن "أزمة الأيديولوجيا"، أو حتى "نهاية الأيديولوجيا" على نفس المنوال، و أن وجود أيديولوجية رسمية للدولة لم يذكر صراحة في دستور روسيا الاتحادية. و هذا مضيعة للوقت؛ و لذا حان الوقت لمعالجة هذه القضية من كثب.
الإيديولوجيات الرئيسية الثلاثة ومصيرها في القرن العشرين
كانت هناك أيديولوجيات رئيسية ثلاث سائدة في القرن العشرين هي:
1) الليبرالية
2) الشيوعية
3) الفاشية
لقد تصارعت تلك الأيدولوجيات و تقاتلت فيما بينها البين حتى الموت، وشكلت جوهريا التاريخ السياسي الدرامي والدموي للقرن العشرين بأكمله. و من المنطقي تبويب هذه الأيديولوجيات (أو النظريات السياسية) استنادًا إلى أهميتها و ترتيب ظهورها على السواء، كما تم القيام به أعلاه.
النظرية السياسية الأولى هي الليبرالية. اذ نشأت أولاً، في وقت مبكر من القرن الثامن عشر، واتضح أنها الأكثر استقرارًا ونجاحًا؛ و هي الأيديولوجية، التي سادت في النهاية على جميع منافسيها في تلك المعارك التاريخية. نتيجة لهذا النصر، فقد برهنت الليبرالية من بين عوامل أخرى، على تبرير مطالبتها بـكامل إرث عصر التنوير. اما اليوم، من الواضح أن الليبرالية كانت هي الأنسب للحداثة. و مع ذلك، كان هذا الإرث محل نزاع سابقًا، بشكل درامي، و فاعل، وفي بعض الأحيان بشكل مُقنع، من قبل نظرية سياسية أخرى- أي الشيوعية.
من المعقول أن نطلق على الشيوعية، التي تشبه كثيرا الاشتراكية بجميع أشكالها و تنويعاتها، انها النظرية السياسية الثانية. ظهرت هذه الايديولوجيا بعد الليبرالية كرد فعل حاسم على ظهور النظام الرأسمالي البرجوازي الذي كان التعبير الأيديولوجي لليبرالية. 
وأخيرًا، الفاشية هي النظرية السياسية الثالثة. و كمنافسين لها بفهمهم الخاص لروح الحداثة، فإن العديد من الباحثين، ولا سيما حنة أردنت Arendt، على وجه الخصوص، يعتبرون الشمولية أحد الأشكال السياسية للحداثة. ومع ذلك، اتجهت الفاشية نحو أفكار ورموز المجتمع التقليدي. و في بعض الحالات، أدى هذا إلى ظهور الانتقائية، وفي حالات أخرى- إلى رغبة المحافظين في قيادة ثورتهم الخاصة بدلاً من مقاومتها او مقاومة ثورة أخرى، وقيادة مجتمعهم  في و الى الاتجاه المعاكس، و هنا اقصد آرثر مولر فان دن بروك  Bruck، ديمتري ميريزكوفسكي، Merezhkovskii و هلم جرا.
ظهرت الفاشية بعد النظريات السياسية الرئيسية الأخرى واختفت قبلها. أدى تحالف النظرية السياسية الأولى مع النظرية السياسية الثانية، بالإضافة إلى حسابات هتلر الجيوسياسية الانتحارية الخاطئة قد أدّى كل ذلك إلى انتهاء صلاحية الفاشية قبل الأوان. لقد كانت النظرية السياسية الثالثة ضحية "القتل الجماعي"، أو ربما "الانتحار"، ولم تعش طويلاً بما يكفي لترى شيخوختها وانحلالها الطبيعي، على عكس ما حدث لإيديولوجية الاتحاد السوفيتي. لذلك، فإن شبح مصاص الدماء السادي الملطخ بهالة من "الشر العالمي المطلق" كان مغريا للأذواق المنحطة في ما بعد الحداثة، ولا يزال الى حد بعيد يُستخدم هذا كبعبع لتخويف البشرية.
مع اختفائها، مهدت الفاشية ميدان المعركة بين النظريتين السياسيتين الأولى والثانية. فأخذت هذه المعركة شكل الحرب الباردة و تسببت هندسة الأوضاع الاستراتيجية في خلق عالم ثنائي القطبية استمر نحو نصف قرن. و بحلول عام 1991، كانت النظرية السياسية الأولى، الليبرالية، قد هزمت النظرية السياسية الثانية، الاشتراكية؛ و بذلك، و بشكل ملحوظ، نجحت النظرية السياسية الأولى في العمل على انهيار الشيوعية على المستوى الجلوبالي/العولمي.
نتيجة لذلك، بحلول نهاية القرن العشرين، كانت النظرية الليبرالية هي النظرية الوحيدة المتبقية من بين النظريات السياسية الثلاث للحداثة التي كانت قادرة على تعبئة الجماهير الغفيرة في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، بعد أن تُركت الليبرالية بمفردها، يتحدث الجميع في انسجام تام عن "نهاية الأيديولوجيا". لماذا ؟

 

نهاية الليبرالية وبداية ما بعد الليبرالية
اتضح في النهاية أن انتصار الليبرالية، النظرية السياسية الأولى، قد تزامن مع نهايتها، رغم أن هذا يبدو تناقض.
كانت الليبرالية أيديولوجية منذ البداية؛ و لم تكن عقائدية مثل الماركسية؛ و مع ذلك لا تقل فلسفةً و لباقة و دقة. لقد عارضت الليبرالية أيديولوجياً الماركسية والفاشية، ولم تقتصر على شن حرب تكنولوجية من أجل البقاء فحسب، بل دافعت أيضًا عن حقها في احتكار صورتها الخاصة بها في المستقبل. و حينما كانت الأيديولوجيات المنافسة الأخرى موجودة، استمرت الليبرالية وازدادت قوة كأيديولوجية، وبعبارة أخرى كمجموعة أفكار ووجهات نظر ومشاريع  تعتبر نموذجية لقضية تاريخية. لقد كان لكل من النظريات السياسية الثلاثة قضاياها الخاصة بها.
فحين كانت قضية الشيوعية الطبقية، كانت قضية الفاشية هي الدولة: في الفاشية الإيطالية تحت حكم موسوليني، أو العرقية في الاشتراكية القومية (النازية) لهتلر. اما في الليبرالية، فقد تم تمثيل قضيتها في الفرد المتحرر من جميع أشكال الهُوية الجماعية وأية "عضوية فيها انتساب و انتماء".
و بينما كان للنضال الأيديولوجي معارضون رسميون، كانت أمم ومجتمعات بأكملها، على الأقل من الناحية النظرية، قادرة على تبني قضاياها التي تختارها – بمعنى قضية الطبقة أو العنصرية أو الدولة أو الفردية. الا ان انتصار الليبرالية قد حلَّ هذا السؤال: فأصبح الفرد هو القضية المعيارية في إطار البشرية جمعاء.
عند هذه المرحلة تتجلى ظاهرة العولمة، و يفصح نموذج المجتمع الما بعد صناعي عن نفسه، فيبدأ عصر ما بعد الحداثة. و بات من الآن فصاعدًا ان قضية الفردية لم تعد نتيجة الاختيار، بل أصبحت نوعًا من الإلزامية المقررة. فيصبح الانسان متحررا من "عضويته" وهويته الجماعية، وتصبح أيديولوجية "حقوق الإنسان" مقبولة على نطاق واسع، على الأقل من الناحية النظرية، وفي الواقع هي إلزامية.
إن الإنسانية في ظل الليبرالية، المكَوَّنة بالكامل من الأفراد، تنجذب بشكل طبيعي نحو العالمية وتسعى إلى أن تصبح عالمية وموحدة. وهكذا ولدت مشاريع "الدولة العالمية"، "الحوكمة العالمية" و "الحكومة العالمية" أو العولمة.
إن أي مستوى جديد من التطور التكنولوجي يجعل من الممكن تحقيق الاستقلال عن الهيكلة الطبقية للمجتمعات الصناعية، وبعبارة أخرى، المجتمعات ما بعد الصناعية.
يتم تمييز القيم العقلانية والعلمية والوضعية على أنها "أشكال مستترة من السياسات القمعية والشمولية" أو الأساليب الروائية المقصود بها التأثير على الناس، فيتم انتقادها. و في الوقت نفسه، يصاحب ذلك تمجيد الحرية الكاملة واستقلال الفرد عن أي نوع من انواع القيود، بما في ذلك العقل والأخلاق والهوية (كانت اجتماعية، أثنية/عرقية أو حتى جندرية/جنوسية، أي من النوع الاجتماعي) والانضباط وما إلى ذلك. هذه هي الحالة و الوضع في ما بعد الحداثة.
في هذه المرحلة، لم تعد الليبرالية هي النظرية السياسية الأولى وأصبحت الممارسة ما بعد السياسية الوحيدة وصول "نهاية التاريخ" وفقا لتصور فوكوياما Fukuyama، الاقتصاد في شكل السوق الرأسمالية العالمية، يحل محل السياسة، اما الدول والأمم فتذوب في مرحلة انتقالية داخل بوتقة العولمة او الكونية العالمية.
بعد أن انتصرت الليبرالية، بدأت تختفي وتتحول إلى كيان مختلف - إلى ما بعد الليبرالية. لم يعد لها أبعاد سياسية، ولا تمثل الاختيار الحر، بل أصبحت نوعًا من "المصير" المحتوم تاريخيًا. هذا هو مصدر القضية الرئيسية في المجتمع ما بعد الصناعي: "الحتمية الاقتصادية او الاقتصاد كمصير".
و هكذا، تتزامن بداية القرن الحادي والعشرين مع نهاية الأيديولوجيات الثلاث. ولقي كل من هذه الأيدولوجيات نهايته المختلفة: فقد تم تقويض النظرية السياسية الثالثة في عز "شبابها"، وماتت النظرية الثانية جراء عجزها لشيخوختها المتداعية، و تم اعادة خلق النظرية الأولى كشيء آخر- مثل ما بعد الليبرالية و "مجتمع السوق الجلوبالي/العالمي". على أية حال، فإن الشكل الذي اتخذته النظريات السياسية الثلاث في القرن العشرين لم يعد عمليا  مفيدًا أو فعالًا أو ذا صلة، لأنها كانت تفتقر إلى القدرة التحليلية على تفسير الواقع المعاصر و ولم تتمكن من مساعدتنا على فهم الأحداث الجارية، وكلها كان غير قادر على الاستجابة للتحديات العالمية (الجلوبالية) الجديدة. و من هنا، من هذا التقييم، تنبع الحاجة إلى النظرية السياسية الرابعة.
النظرية السياسية الرابعة و مناهضة الوضع الراهن
لن يتم الوصول الى النظرية السياسية الرابعة وتسلمها بدون أي جهد؛ فمن المحتمل أن تظهر أو ربما لن تظهر. الشرط الجوهري لظهورها هو الخروج و الاعتراض؛ و أقصد هنا مناهضة ما بعد الليبرالية  بوصفها ممارسة جلوبالية/عالمية، ومناهضة العولمة، ومقاومة ما بعد الحداثة، والوقوف ضد "نهاية التاريخ"، وضد الوضع الراهن، وضد قصور تطور العمليات الحضارية الكبرى في بداية القرن الحادي والعشرين.
إن هذا الوضع الراهن وذاك القصور لا يفترضان مسبقًا أية نظريات سياسية على الإطلاق. اذ لا يمكن للعالم الجلوبالي أن تحكمه إلا قوانين الاقتصاد والأخلاق العالمية "لحقوق الإنسان"؛ فيتم استبدال كل القرارات السياسية بقرارات تكنوقراطية فنية؛ و تحل الآلات والتكنولوجيا محل كل شيء آخر. و في هذا الصدد، يطلق الفيلسوف الفرنسي آلان دي بينوا Alain de Benoist على هذا الوضع الحوكمة la gouvernance أو الحوكمة، او "الإدارة التفصيلية/الجزئية/الدقيقة"، التي من خلالها يتم احلال المدراء والتكنوقراط محل السياسي، الذي يتخذ القرارات التاريخية لتحسين لوجستيات الإدارة، و حيث تتساوى الجماهير الغفيرة من الشعوب مع تكتل فردي من الأشياء الفردية. لهذا السبب، فان الواقع ما بعد الليبرالي، أو بالأحرى، الواقع الافتراضي، يقوم بإزاحة الواقع المعاش عن نفسه، مما يؤدي ذلك مباشرة إلى الإلغاء الكامل للسياسة.
قد يجادل البعض بأن الليبراليين يكذبون علينا عندما يتحدثون عن "نهاية الأيديولوجيا" (كانت تلك مناظرتي مع الفيلسوف ألكسندر زينوفييف Alexander Zinoviev)؛ و "في الواقع فعليا"، فان الليبراليين سيظلون مؤمنين بأيديولوجيتهم وينكرون كل شيء على الآخرين بما في ذلك الحق في الوجود. هذا ليس صحيحا تماما. عندما تتحول الليبرالية من كونها ترتيبًا أيديولوجيًا إلى المحتوى الوحيد لوجودنا الاجتماعي والتكنولوجي الحالي، فإنها لم تعد "أيديولوجية"، بل حقيقة وجودية، نظام موضوعي للأشياء، و تصبح تحديا ليس صعبا فحسب بل أحمقا أيضًا. في عصر ما بعد الحداثة، تنتقل الليبرالية من مجال الذات إلى مجال المحسوس/الموضوع. و من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى الاستبدال الكامل للواقع المعاش بواقع افتراضي.
لقد تم فهم و تصور النظرية السياسية الرابعة كبديل لما بعد الليبرالية، ولكن ليس كترتيب أيديولوجي مترابط الواحد تلو الآخر. و بدلا من ذلك، هي كفكرة غير مادية غير مجسدة تعارض المادة المجسّدة، مثلها مثل إمكانية الدخول في صراع مع الواقع، الذي لم يظهر بعد لمهاجمة ما هو موجود بالفعل.
في الوقت نفسه، ولم تكن النظرية السياسية الرابعة تدرجا و استمرارا للنظريتين السياسيتين الثانية و الثالثة. و لم تكن نهاية الفاشية، التي تشبه كثيرا نهاية الشيوعية، مجرد سوء فهم طارئ، بل كانت تعبيرًا عن منطق تاريخي فعلي و صريح إلى حد ما. لقد تحدت هاتان النظريتان روح الحداثة (الفاشية فعلت ذلك تقريبا بشكل شبه علني، والشيوعية بشكل أكثر سرية: انظر مراجعة الفترة السوفيتية باعتبارها نسخة "لاهوتية/أخروية" خاصة بالمجتمع التقليدي بقلم ميخائيل س. أغورسكيMikhail S. Agursky   أو كتابات سيرجي كارا مورزاMurza  Sergei Kara- اذ كلهم تاهوا فخسروا(1).
وهذا يعني أن الصراع مع التحوُل المَسخ لما بعد الحداثة لليبرالية إلى شكل ما بعد الحداثة والعولمة يجب أن يكون مختلفًا نوعيا، و يجب أن يستند إلى مبادئ جديدة وان يقترح استراتيجيات جديدة. ومع ذلك، فإن نقطة البداية لهذه الأيديولوجية هي بالتحديد رفض الجوهر الحقيقي لما بعد الحداثة. نقطة البداية هذه ممكنة - لكنها ليست مضمونة و لا حتمية و ليست معدة وفقا للقَدَر- لأنها تنشأ من حرية الإنسان، و إرادته و عزمه و روحه، و هي ليست عملية تاريخية و موضوعية غير متأثرة بالمشاعر الشخصية.
----------------------------------------------
(1)  ملاحظة مترجم النسخة الروسية: قد يكون لدى المتحدثين باللغة الإنجليزية وقت أسهل و أسرع في الوصول إلى الأعمال ذات الصلة إلى حد ما بقضايا الاتحاد السوفيتي، مثل الحداثة والتقليدية، في كتابات عدة على سبيل المثال ديفيد ل. هوفمان، القيم الستالينية: المعايير الثقافية و الحداثة السوفيتية،1917-1941 (إيثاكا: مطبعة جامعة كورنيل، 2003)؛ وديفيد براندنبرغر، البلشفية القومية: الثقافة الستالينية الجماهيرية وتشكيل الهوية القومية الروسية الحديثة، 1931-1956، (كامبريدج: مطبعة جامعة هارفارد ، 2002).

ومع ذلك، فإن هذا الجوهر (يشبه إلى حد كبير الأساس المنطقي وراء الحداثة نفسها - غير محسوس في وقت سابق، ولكن لاحقًا أدرك جوهره تمامًا لدرجة أنه استنفد موارده الداخلية وتحول إلى طريقة إعادة تدوير لمراحلها السابقة بصورة تهكمية)، شيء جديد تمامًا، لم يكن معروفًا من قبل، و تم تخمينه بشكل حدسي و متشظي فقط خلال المراحل الأولى من التاريخ والصراع الأيديولوجيين.

النظرية السياسية الرابعة بوصفها "حملة صليبية" ضد:
• ما بعد الحداثة،
• المجتمع ما بعد الصناعي،
• تحقيق الفكر الليبرالي في الممارسة،
• والعولمة وأسسها اللوجستية والتكنولوجية.
إذا كانت النظرية السياسية الثالثة تنتقد الرأسمالية من منطلق يميني، و اذا كانت النظرية السياسية الثانية تنتقد الرأسمالية من منطلق يساري، إذن لم تعد المرحلة الجديدة تحمل ملامح هذه الطوبوجرافية السياسية او تتميز بها: فمن المستحيل تحديد موقع اليمين واليسار فيما يتعلق بما بعد الليبرالية. هناك موقفان فقط: الامتثال (للمركز) والخروج عنه و معارضتة (من قبل الهامش او الحواف). و كلا الموقفين عالمي جلوبالي.
ان النظرية السياسية الرابعة هي اندماج مشروع مشترك، ينشأ من دافع مشترك لكل ما تم نبذه وإسقاطه وإهانته أثناء بناء "مجتمع المظاهر و الأدوار السخيفة spectacle"، (أثناء بناء ما بعد الحداثة). و ان "الحجر الذي رفضه البناؤون صار حجر الأساس"(Mark 12:10). و لقد أشار الفيلسوف ألكسندر سيكاتسكي ( (Alexander Sekatskyعن صدق إلى أهمية "التهميش والهامشية" في تشكيل عصر فلسفي جديد، مقترحًا مصطلح "ميتافيزيقيا الحُطام و الأنقاض" كنوع من الاستعارة.

 

 

معركة ما بعد الحداثة
تتعامل النظرية السياسية الرابعة مع التقمص الجديد لعدو قديم. إذ تتحدى الليبرالية، بطريقة مشابهة كثيرا لتحديها كل من النظرية السياسية الثانية والثالثة التي سادت في الماضي؛ لكنها تفعل ذلك في ظل ظروف جديدة. تكمن الحداثة الرئيسية لهذه الظروف في حقيقة أنه من بين الأيديولوجيات السياسية العظيمة الثلاث، تعد الليبرالية وحدها هي التي ضمنت الحق في الإرث الكامن وراء روح الحداثة وحصلت على حق إنشاء "نهاية التاريخ" بناءً على مقدماتها الخاصة.
و من الناحية النظرية، كان من الممكن أن تكون نهاية التاريخ مختلفة: "رايخ كوكبي هائل"، إذا انتصر النازيون، أو "شيوعية أممية"، لو كان الشيوعيون على حق. ومع ذلك، فقد تبين أن "نهاية التاريخ" ليبرالية على وجه التحديد تماما. كان الفيلسوف ألكسندر كوجيفKojève  من أوائل الذين تنبأوا بتلك الأفكار؛ بينما في فترة لاحقة أعاد فرانسيس فوكو ياما Fukuyama صياغتها و طرحها. و لكن بما أن هذا هو الحال، فإن أي مناشدات للحداثة وافتراضاتها، والتي ناشدها ممثلو النظرية السياسية الثانية (إلى حد أكبر) والثالثة بدرجات متفاوتة، تفقد أهميتها. لقد خسر اتباع هاتين النظريتين معركة الحداثة بينما انتصر الليبراليون. لهذا السبب، يمكن إزالة قضية الحداثة، بالتناسب و لو عرضيا مع قضية التحديث، من جدول الأعمال. و اما الآن، تبدأ معركة ما بعد الحداثة.
و هنا تُفتح آفاقٌ جديدة للنظرية السياسية الرابعة. إن نوع ما بعد الحداثة، الذي يتم تحقيقه حاليًا على صعيد الممارسة صوب ما بعد الحداثة لما بعد الليبرالية، يُلغى المنطق الصارم للحداثة نفسها- و بعد ان تم تحقيق الهدف، يفقد الخطوات المتخذة للوصول  إلى معناه؛ فيصبح ضغط القشرة الأيديولوجية أقل تصلبا و صرامة. فيتم استبدال ديكتاتورية الأفكار بديكتاتورية الأشياء وفقا لتسجيل الدخول عبر كلمات مرورية سرية وشفرات قضبانية. أما الآن، فتظهر ثغرات جديدة في نسيج واقع ما بعد الحداثة.
و لأن النظريتين السياسيتين الثالثة والثانية، اللتين تم تصورهما على أنهما نسخة لاهوتية أخروية من التقليدانية (التمسك الصرف بالتقليد)، فقد حاولتا ذات مرة أن "تمتطيا صهوة جواد الحداثة المُسْرَج و تلقيا المسئولية على عاتق خصمهما لتقييد الحداثة'' و ذلك في صراعهما مع الليبرالية، اقصد النظرية السياسية الأولى. و اليوم هناك فرصة لتحقيق شيء مماثل و مواز لما بعد الحداثة، باستخدام تلك "الثغرات الجديدة"، على وجه الخصوص.
طورت الليبرالية أسلحة فعالة مُسيرة لا تشوبها شائبة هدفت إلى تحقيق بدائلها الصريحة و المباشرة، و كانت الأساس في انتصارها. لكن هذا النصر بعينه يحمل أكبر خطر عليها. و نحتاج فقط إلى التأكد من مواطن الضعف الجديدة في النظام العالمي/الجلوبالي وفك تشفير الكلمات المرورية الخاصة بتسجيل الدخول اليها من أجل اختراق ذاك النظام. و على أقل تقدير، يجب أن نحاول القيام بذلك. لقد أظهرت أحداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك أن هذا ممكن تقنيًا. يمكن أن يكون مجتمع الإنترنت مفيد، حتى بالنسبة لأولئك الذين يعارضونها بشدة. على أية حال، أولاً وقبل كل شيء، يجب أن نفهم ما بعد الحداثة ووضعنا الجديد بطريقة ليست أقل عمقا مما فهمه ماركس عن بنية الرأسمالية الصناعية.
يجب أن تستمد النظرية السياسية الرابعة "إلهامها المُظلم" من ما بعد الحداثة، و من تصفية برنامج التنوير، و قدوم مجتمع المحاكاة و التقليد، وتفسير ذلك على أنه حافز للمعركة بدلاً من حتمية المصير.

إعادة التفكير في الماضي و الّذين تاهوا فيه فخسروا
النظريتان السياسيتان الثانية والثالثة غير مقبولتين كنقاط انطلاق لمقاومة الليبرالية، لا سيما بسبب الطريقة التي فهمتا بها نفسها، وما دعيتا اليه وكيف عملتا. لقد وضعت هاتان النظريتان أنفسهما كمنافستين للتعبير عن روح الحداثة وفشلتا في هذا المسعى. ومع ذلك، لا شيء يمنعنا من إعادة التفكير في حقيقة فشلهما كشيء إيجابي وإعادة صياغة رذائلهما و تحويلها الى فضائل. و نظرًا لمنطق تاريخ العصر الجديد فقد أوصلتنا إلى ما بعد الحداثة، اذ احتوى ذلك أيضًا على الجوهر السري للعصر الجديد الذي لم يتكشف لنا إلا في النهاية.
اعترفت النظريتان السياسيتان الثانية والثالثة بأنهما المُنافِستان للتعبير عن روح الحداثة. وانهارت هذه الادعاءات. و كل ما يتعلق بهذه النوايا التي لم تتحقق في الأيديولوجيات السابقة لا يثير اهتمام مبتكري النظرية السياسية الرابعة. ومع ذلك، يجب أن نعزو حقيقة أنهم خسروا إحدى مزاياهم ولم يخسروا عيوبهم.  و من خلال تلك الخسارة، أثبتوا أنهم لا ينتمون إلى روح الحداثة، والتي بدورها أدّت إلى مصفوفة ما بعد الليبرالية. وهنا تكمن مزاياها. علاوة على ذلك، ان هذا يعني أن ممثلي النظريتين السياسيتين الثانية والثالثة سواء بوعي أو بغير وعي، وقفوا إلى جانب النزعة التقليدية، على الرغم من عدم استخلاص النتائج اللازمة من ذلك، أو حتى انهم لم يعترفوا بها على الإطلاق.
يجب إعادة النظر في النظريتين السياسيتين الثانية والثالثة واختيار منهما ما يجب التخلي عنه وما له قيمة في حد ذاته. و كأيديولوجيات كاملة، فإنها تحاول إظهار نفسها بالمعنى الحرفي،  ولذا، هي عديمة الفائدة تمامًا، سواء من الناحية النظرية أو العملية. ومع ذلك، فإن بعض العناصر الهامشية التي دعت إلى الأفكار التي لم يتم تطبيقها بشكل عام والتي ظلت على الهامش أو في الظل (دعونا نتذكر "ميتافيزيقيا الحُطام" مرة أخرى)، فقد يتبين، بشكل غير متوقع، أنها ذات قيمة كبيرة ومُشبَّعة من حيث المعنى والحدس.
ومع ذلك، على أية حال، من الضروري إعادة التفكير في النظريتين السياسية الثانية والثالثة بطريقة جديدة، وفقط بعد أن نرفض ثقتنا في تلك الهياكل الأيديولوجية التي تقوم عليها "أرثوذكسيتهما". إن أرثوذكسيتهما هي أكثر جوانبهما رتابة وعدم قيمة. و ستكون قراءتهما أكثر إنتاجية: "ماركس من خلال نظرة إيجابية لليمين" أو "إيفولا Evola  من خلال نظرة إيجابية لليسار". هذا التعهد "البلشفي القومي" الرائع المشبع بروح نيكولاي ف. أوستريالوف (Nikolai V. Ustrialov) و إرنست نيكيتش (Ernst Niekisch) ، لا يكفي بحد ذاته. بعد كل شيء، فإن الإضافة الميكانيكية للنظرية السياسية الثانية إلى النظرية الثالثة لن تقودنا في حد ذاتها إلى أي مكان. فقط في الماضي يمكننا تحديد القواسم المشتركة التي كانت تعارضها بشدة الليبرالية. هذا المِران المنهجي مفيد كحمية و تسخين قبل الشروع في تطوير كامل للنظرية السياسية الرابعة. 
ان قراءة مهمة وحاسمة حقيقية للنظريات السياسية الثانية والثالثة ممكنة فقط على أساس النظرية السياسية الرابعة الراسخة بالفعل تمثل ما بعد الحداثة وشروطها (العالم المُعولَم، الحوكمة أو "الإدارة الجزئية/الدقيقة"، مجتمع السوق، عالمية حقوق الإنسان، "الهيمنة الحقيقية لرأس المال"، وما إلى ذلك) كل ذلك يمثل الهدف الرئيسي للنظرية السياسية الرابعة. ومع ذلك، فقد تم رفضها بشكل جذري كقيمة في حد ذاتها.

عــودة النزعة التقليدية واللاهوت

لقد تم الاطاحة بالنزعات التقليدية (الدين و الكهنوت و التراتبية في النظام الاداري و الكنسي و العائلي) وقيمها عند مطلع فجر الحداثة. في الواقع، تم تصور جميع النظريات السياسية الثلاث على أنها بُنىً أيديولوجية مصطنعة من قبل الأشخاص الذين فهموا، بطرق مختلفة، "موت الإله" (فريدريك نيتشه) Friedrich Nietzsche، و "خيبة أمل العالم و انعتاقه من السحر و الشعوذة" ماكس ويبر(Max Weber)، و "نهاية المقدس". كان هذا هو جوهر العصر الجديد للحداثة: جاء الإنسان ليحل محل الإله، والفلسفة والعلم حلا محل الدين، وأخذت البُنى العقلانية والتكنولوجية القوية تحل محل الوحي و كل ما هو مُنزل.
ومع ذلك، إذا تم استنزاف الحداثة في ما بعد الحداثة، فعندئذٍ في نفس الوقت، تنتهي معها فترة "الحروب المباشرة ضد الآلهات".  و الناس الما بعد حداثيين ليسوا أعداء للدين، بل هم غير مُبالين به. علاوة على ذلك، فإن جوانب معينة من الدين، كقاعدة عامة، و المتعلقة بمراتب جهنم فان شيطانية او أبلسة أو "البنية الشيطانية" لفلاسفة ما بعد الحداثة جذابة للغاية بالنسبة للعديد من أفراد ما بعد الحداثة. على أية حال، انتهى عصر اضطهاد النزعات التقليدية، على الرغم من أن هؤلاء يتبعون منطق ما بعد الليبرالية، و هذا من المرجح أن يؤدي إلى إنشاء دين عالمي جديد زائف يقوم على طقوس و قصاصات هزيلة و مصوحة من العبادات التوفيقية المتباينة، والفوضى المسكونية المتفشية، و "تسامح ما". و في حين أن هذا التحول في الأحداث، في بعض النواحي، أكثر رعبا من الإلحاد والمادية العقائدية المباشرة وغير المُعقدة، فإن الانخفاض و الضعف في اضطهاد الدين والإيمان ربما يكون فرصة، في ما لو كان ممثلو النظرية السياسية الرابعة يتصرفون باستمرار وبلا هوادة في الدفاع عن مُثُل وقيم التقاليد.
أصبح من الآمن الآن وضع برنامج سياسي كانت الحداثة قد حرمته و جرمته قانونيا في السابق. و هذا لم يعد يبدو أحمقا ومحكوم عليه بالفشل كما كان من قبل - لأن كل شيء في ما بعد الحداثة يبدو أحمقا ومحكوما عليه بالفشل، بما في ذلك سماته الأكثر "بريقًا و تألقا". ليس من قبيل المصادفة أن أبطال ما بعد الحداثة هم "أصحاب النزوات/غريبي الأطوار" و "الوحوش" و "المتخنثون/المثلييون" و "المنحطون" - هذا هو القانون و الصفات المميزة للموضة السائدة في عصر ما بعد لليبرالية و ما بعد الحداثة. و بإزاء خلفية المُهَرجين في العالم، لا شيء ولا أحد يمكن أن يبدو "عتيقا جدًا"، ولا حتى الأشخاص التقليديون الذين يتجاهلون مقتضيات الحياة الحديثة. ان نزاهة و عدالة هذا التأكيد ليست كذلك. فقد تم إثبات ذلك فقط من خلال الإنجازات الهامة ليس فقط للأصولية الإسلامية، ولكن أيضًا من خلال احياء التأثير المتزايد للطوائف البروتستانتية القديمة للغاية (أهل الحل و العقد، و مانحو الصكوك و التراخيص و الاعفاء الكنسي، و المورمون Mormons"" و غيرهم) على السياسة الخارجية الأمريكية. لقد ذهب جورج دبليو بوش إلى شن الحرب على العراق لأنه، على حد قوله: "لقد أمرني الله بغزو العراق!" وهذا الطرح يتوافق تمامًا مع اساتذته البروتستانت الميثوديين/المنهجيين.
و هكذا، يمكن للنظرية السياسية الرابعة أن تتجه بسهولة نحو كل ما سبق الحداثة من أجل استلهامها. لم يعد الاعتراف بــ"موت الرب" أمرًا إلزاميًا لمن يريد البقاء على صلة بالموضوع. لقد استسلم أهل ما بعد الحداثة بالفعل لهذا الحدث لدرجة أنهم لم يصبحوا قادرين على فهمه - "مَن مات بالضبط؟" و لكن، بنفس الطريقة، يمكن لمطوري النظرية السياسية الرابعة أن ينسوا هذا "الحدث": علينا ان "نعتقد بالرب، لكن علينا أن نتجاهل أولئك الذين يتحدثون عن موته و يعلّمون الناس ذلك، مثلما نتجاهل كلام المجانين".

هذا يشير إلى عودة اللاهوت، ويصبح عنصرًا أساسيًا في النظرية السياسية الرابعة. عندما تعود، يمكن التعرف بسهولة على ما بعد الحداثة (العولمة وما بعد الليبرالية والمجتمع ما بعد الصناعي) على أنها "مملكة المسيح الدجال" (أو نظيراتها في الديانات الأخرى - "الدجال" عند المسلمين، و "إريف راف"Eriv Rav عند اليهود، و كالي يوجا "Kali Yuga" عند الهندوس، وما إلى ذلك). هذه ليست مجرد استعارة قادرة على تعبئة الجماهير، ولكنها حقيقة دينية - حقيقة الدمار و الفناء و نهاية العالم.

الأساطير و الأساليب والألفاظ المهجورة في النظرية السياسية الرابعة

إذا توقف الإلحاد، في العصر الجديد، عن كونه أمرًا إلزاميًا للنظرية السياسية الرابعة، فلن يكون هناك لاهوت للديانات التوحيدية، التي حينها أزاحت الثقافات المقدسة الأخرى، سوف لن تكون الحقيقة المطلقة ايضا، (أو بالأحرى، قد تكون أو لا تكون). و من الناحية النظرية، لا شيء يحد من عمق معالجة القيم القديمة و المهجورة، والتي يمكن أن تأخذ مكانها في البناء الأيديولوجي الجديد عند الاعتراف بها وفهمها بشكل واف. و بإلغاء الحاجة إلى تكييف اللاهوت مع عقلانية الحداثة، فإن ناقلي و حملة النظرية السياسية الرابعة أحرار في تجاهل تلك العناصر اللاهوتية والعقائدية في المجتمعات التوحيدية التي تأثرت بالعقلانية، خاصة في مراحلها اللاحقة. أدى هذا الأخير إلى ظهور الربوبية على أنقاض الثقافة الأوروبية المسيحية، تلاه الإلحاد والمادية، أثناء التطور المرحلي لبرنامج العصر الحديث.

ليس فقط أعلى رموز الإيمان الغيبي يمكن أخذها مرة أخرى كمتراس جديد، ولكن أيضًا يمكن لتلك الجوانب غير العقلانية من الطوائف والطقوس والأساطير التي حيرت اللاهوتيين في العصور السابقة. إذا رفضنا فكرة التقدم المتأصلة في الحداثة (والتي انتهت كما رأينا)، فإن كل ما هو قديم يكتسب قيمة ومصداقية بالنسبة لنا ببساطة بحكم أنه قديم. "فالقديم" يعني الخير، وكلما كان أقدم من القديم، كلما كان ذلك أفضل. و من بين جميع المخلوقات، و الجنة هي الأقدم بكثير. يجب أن يسعى معتنقو النظرية السياسية الرابعة إلى إعادة اكتشافها في المستقبل القريب.

هايدجر Heidegger   و "الحدث/الثورة " (Ereignis)

أخيرًا، يمكننا تحديد الأساس الأكثر عمقًا – طبيعة الوجود اوالأنطولوجيا! - للنظرية السياسية الرابعة. هنا، ينبغي علينا أن ننتبه ليس فقط إلى اللاهوت والأساطير، ولكن أيضًا للتجربة الفلسفية التأملية لمفكر بعينه قام بمحاولة فريدة لبناء علم الوجود الأساسي - الدراسة الأكثر شمولاً وتناقضًا وعمقًا وتغلغلًا و التي تناولت الوجود. و هنا أنا أتحدث عن مارتن هايدجر.Heidegger

ان وصف موجز لمفهوم هايدجر كالتالي: في فجر الفكر الفلسفي، أثارَ الناسُ (بشكل أكثر تحديدًا، الأوروبيون، وايضا اليونانيون على وجه الخصوص) مسألة الوجود كنقطة محورية في تفكيرهم. ولكن من خلال جعله موضوعهم الأساسي، فقد خاطروا بالارتباك بسبب الفروق الدقيقة في العلاقة المعقدة بين الوجود والفكر، بين الكينونة الخالصة (Seyn) والتعبير عنها في الوجود– الكائن/الهناك (Seinde)، بين تجربة الإنسان للوجود- في العالم Dasein – (الوجود هنا) والوجود في ذاته .(Sein) هذا الفشل (ان توجد او تكون) قد حدث بالفعل في تعاليم هيراقليطس (Heraclitus) حول الطبيعة او ما هو موجود أصلا و الفكرة او العقل/المنطق الذي يسير الكون. ثم بعد ذلك، من الواضح أنه وارد في أعمال بارمينيدس (.(Parmenidesو أخيراً، في مؤلفات أفلاطون ((Plato، الذي وضع الأفكار حول الإنسان والوجود، والذي عرّف الحقيقة على أنها تلك التي تتوافق معها - النظرية المرجعية للمعرفة - بلغت ذروتها بالفشل. أدى هذا إلى نشوء الاغتراب، مما أدى في النهاية إلى "حساب التفكير"(das rechnende Denken)  ثم إلى تطوير التكنولوجيا. شيئًا فشيئًا، فقد الإنسان رؤية الوجود النقية واتبع طريق العدمية. جوهر التكنولوجيا (على أساس العلاقة بين التكنولوجيا والعالم) يعبر عن هذه العدمية المتزايدة باستمرار. و في العصر الجديد، وصل هذا الاتجاه إلى ذروته - التطور التقني (Gestell) ليزيح الوجود في النهاية ويتوج "العدم". لقد كره هايدجر الليبرالية بمرارة، واعتبرها تعبيرًا عن "مصدر التفكير الحسابي" الذي يكمن في قلب "العدمية الغربية".

أما ما بعد الحداثة، التي لم يعش هايدجر ليراها في تجليها الكامل، هي، بكل معنى الكلمة، النسيان المطلق للكينونة؛ إنه "منتصف ليل"، عندما يبدأ العدم (العدمية) بالتسرب من بين كل الشقوق. لكن فلسفته لم تكن متشائمة بشكل ميؤوس منه. لقد اعتقد أن العدم في حد ذاته هو الوجه الآخر للوجود الخالص، والذي- بهذه الطريقة المتناقضة! - يذكر البشرية بوجودها. إذا قمنا بفك تشفير المنطق الكامن وراء انتشار الوجود بشكل صحيح، فإن تفكير الإنسان يمكن أن ينقذ نفسه بسرعة البرق في لحظة الخطر الأكبر. يقتبس هايدجر من شعر فريدريش هولدرلين (F. Hölderlin): "حيثما يكمن الخطر، هناك أيضًا ينمو ما ينقذ/الخلاص".

استخدم هايدجر مصطلحًا خاصًا، Ereignis - "الحدث/الحدوث/الثورة"، لوصف هذه العودة المفاجئة للوجود. يحدث بالضبط في منتصف ليل العالم – أي في أحلك لحظة في التاريخ. كان هايدجر نفسه يتردد باستمرار فيما يتعلق بما إذا كان قد تم الوصول إلى هذه النقطة، أم أنه "تماما ليس بعد". انه الأبدي "ليس بعد" ...

لقد تثبت فلسفة هايدجر أنها المحور المركزي لكل شيء متسلسل و مترابط حول نفسه - بدءًا من النظريات السياسية الثانية والثالثة التي أعيد تصورها إلى عودة اللاهوت والأساطير.
وهكذا، في قلب النظرية السياسية الرابعة، كمركزها المغناطيسي، يكمن مسار اقتراب ("الحدث/الحدوث '')، والذي سوف يجسد العودة المظفرة للوجود، في نفس اللحظة التي تنسى فيها البشرية، ذات مرة و نهائيا،  الى درجة أن آخر آثارها سوف تختفي.

النظرية السياسية الرابعة وروسيا

في ايامنا هذه، يدرك الكثير من الناس بشكل بديهي أن روسيا ليس لها مكان في "العالم الجديد الشجاع" للعولمة وما بعد الحداثة وما بعد الليبرالية. أولا ، تقوم الدولة العالمية والحكومة العالمية تدريجيا بإلغاء جميع الدول القومية بشكل عام. والأهم من ذلك حقيقة أن التاريخ الروسي بأكمله هو حجة جدلية مع الغرب وضد الثقافة الغربية، النضال من أجل دعم حقيقتنا (غالبًا ما يتم فهمها بشكل حدسي فقط)، وفكرتنا المسيحية الخاصة، ونسختنا الخاصة من "نهاية التاريخ ''، بغض النظر عن كيفية التعبير عنها - من خلال الأرثوذكسية في موسكو، أو إمبراطورية بيترPeter العلمانية، أو ثورة شيوعية. رأى ألمع العقول الروسية بوضوح أن الغرب يتجه نحو الهاوية. الآن، بالنظر إلى المكان الذي قاد فيه الاقتصاد الليبرالي الجديد وثقافة ما بعد الحداثة العالم، يمكننا ذلك ان نكون على يقين من أن هذا الحدس، الذي دفع أجيالًا من الشعب الروسي للبحث عن بدائل، كان له ما يبرره تمامًا.

الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية هي مجرد البداية. الأسوأ لم يأت بعد. إن جمود السياسة ما بعد الليبرالية يجعل من المستحيل تغيير المسار لإنقاذ الغرب، فإن "التكنولوجيا غير المقيدة" (أوزوالد شبنجلر Oswald Spengler) سوف تبحث عن وسائل تكنولوجية أكثر كفاءة، ولكنها تقنية بحتة. هذه هي المرحلة الجديدة في بداية الجيشتل Gestell، التي تنشر وصمة العدم للسوق العالمية على الكوكب بأسره. و بالانتقال من أزمة إلى أزمة ومن فقاعة إلى أخرى( اذ نظم الآلاف من الأمريكيين المظاهرات في وقت الازمات مرددين الشعار التالي: "اعطونا الجديد من الفقاعات، وهل من الممكن ان تكون اكثر فظاظة؟")، فإن الاقتصاد المتعولم وهياكل المجتمع ما بعد الصناعي تجعل ليلة البشرية أكثر سوادًا و ظلامة. إنه أسود للغاية، في الواقع، لدرجة أننا ننسى تدريجيًا أنه وقت الليل. يسأل الناس أنفسهم "ما النور؟" لأنهم لم يروه ابدا. 

من الواضح أن روسيا بحاجة إلى اتباع مسار مختلف، مسارها الخاص. ولكن هنا يكمن السؤال والمفارقة. لن يكون التهرب من منطق ما بعد الحداثة في بلد واحد بهذه البساطة. النموذج السوفياتي حاول، وانهار. بعد ذلك تغير الوضع الأيديولوجي بشكل لا رجعة فيه وكذلك الحال بالنسبة لميزان القوى الاستراتيجي. و لكي تنقذ روسيا نفسها والآخرين، لا يكفي خلق نوع من المعجزة التكنولوجية أو أية استراتيجية خادعة. تاريخ العالم له منطقه الخاص. و "نهاية الأيديولوجيا" ليست فشلاً عشوائياً، بل بداية مرحلة جديدة - وعلى ما يبدو، المرحلة الأخيرة.

في هذا الوضع، يعتمد مستقبل روسيا بالكامل على جهودنا لتطوير النظرية السياسية الرابعة. لن نذهب بعيدا، ولن نؤجل إلا ما لا مفر منه، بغية محاولة فرز تلك الخيارات التي تقدمها العولمة لنا على أساس محلي، ومحاولة تصحيح الوضع الراهن بطريقة سطحية. إن تحدي ما بعد الحداثة مهم للغاية: فهو متجذر في منطق نسيان الوجود وفي خروج البشرية عن جذورها الوجودية (الأنطولوجية) والروحية (اللاهوتية). و من المحال الرد عليها ببدائل الابتكار او الابداع أو العلاقات العامة. و لذلك، فإننا يجب الرجوع إلى الأسس الفلسفية للتاريخ و بذل جهد ميتافيزيقي من أجل حل المشاكل الحالية - الأزمة الاقتصادية العالمية، مواجهة العالم أحادي القطبية، وكذلك الحفاظ على السيادة وتعزيزها، وما إلى ذلك.

من الصعب القول كيف ستنتهي عملية تطوير هذه النظرية. هناك شيء واحد فقط واضح: لا يمكن أن يكون جهدًا فرديًا أو يقتصر على مجموعة صغيرة من الناس. يجب أن يكون الجهد مشتركًا وجماعيًا. ففي هذا الصدد، يمكن لممثلي الثقافات والشعوب الأخرى، في كل أوروبا وآسيا، مساعدتنا حقًا، لأنهم يشعرون بالتوتر الأخروي للحظة الحالية بنفس القدر من الحدة، ويبحثون عن مخرج من المأزق العالمي الجلوبالي بنفس القدر من اليأس.

ومع ذلك، من الممكن أن نقول سلفا أن النسخة الروسية من النظرية السياسية الرابعة، القائمة على رفض الوضع الراهن بأبعاده العملية والنظرية، ستركز على حدوث الأهمية الاجتماعية او الشخصية لروسيا، أي الشرط الأساسي المسبق للوجود و الزمان، بمعنى الحدث/الثورة، "Ereignis الروسي". و سيكون هذا "الحدث" الفريد والاستثنائي، الذي عاشته وانتظرته أجيال عديدة من الشعب الروسي، منذ ولادة أمتنا و حتى مجيء يوم القيامة.

Hola