ألكسندر دوغين: لن ينجح الغرب في فكّ التحالف بين روسيا والصين

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لم يشاطر ألكسندر دوغين القسم الأعظم من النخبة الروسية «حلمها الأوروبي». الرجل الذي لُقّب منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، بـ«بطريرك أوراسيا»، لم تدفعه معارضته للنظام الاشتراكي إلى أن يصبح مروّجاً للنظام الرأسمالي الليبرالي الغربي ولقيمه الحداثية الجوفاء. ربما كان من بين القلّة القليلة من المفكّرين والسياسيين الروس الذين عادوا إلى استخدام مفهوم «أوراسيا» بمعناه الجيوسياسي. هو أصلاً عارض النظام الشيوعي لأنه اعتبره بدوره نموذجاً غربياً يتناقض مع الخصوصية الحضارية والثقافية لروسيا، ودافع عن ضرورة بلورة نموذجها الفريد المنسجم مع هذه الخصوصية. لكن التهديد الرئيس والوجودي بنظره، لروسيا ولبقية شعوب العالم، منذ نهاية الثنائية القطبية، هو الهيمنة الأحادية الأميركية، واستراتيجية الولايات المتحدة الهادفة إلى تدمير الأمم والمجتمعات، أي الوحدات الحضارية، المؤهلة بحكم وزنها الجيوسياسي وعمق حسّها التاريخي لأن تتحوّل إلى أقطاب تعيد قدراً من التوازن إلى الوضع الدولي. في مقابلة مع «الأخبار» خلال مشاركته في «مؤتمر الأفق الجديد الدولي» في بيروت، يعتبر دوغين أن تحليل استراتيجيات القوى الدولية الرئيسة، الولايات المتحدة وروسيا والصين، ينبغي أن ينطلق من طبيعة المرحلة التاريخية التي نشهدها، وهي برأيه مرحلة الانتقال الصراعي والمعقد من الأحادية إلى التعددية القطبية. لدوغين، المفكر القريب من دوائر صنع القرار في روسيا، عشرات المؤلفات، أبرزها: «نحو نظرية للعالم المتعدد الأقطاب»، «نداء أوراسيا»، «فلاديمير بوتين: ما له وما عليه» و«من أجل كتلة تقليدية».

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن رغبة لدى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في التوصّل إلى صفقة كبرى مع روسيا للتفرّغ لمواجهة الصين، على الرغم من معارضة الدولة العميقة لها. جهود أوروبية، وتحديداً فرنسية، تُبذل في الاتجاه نفسه بهدف الانفتاح على روسيا. ألكسندر دوغين غير مقتنع بإمكانية مثل هذه الصفقة: «يجب النظر إلى هذه الفرضية في سياق دولي أوسع، سمته الرئيسة الانتقال من الأحادية القطبية إلى تعدد الأقطاب. هذا وضع شديد التعقيد لا يمكن إغفاله عند الحديث عن إمكانية أو عدم إمكانية الصفقة بين الولايات المتحدة وروسيا أو عن علاقات روسيا مع الصين أو مع الشرق الأوسط. القطب الواحد ما زال موجوداً ويسعى للحفاظ على الهيمنة الغربية من خلال إضعاف الأقطاب الصاعدة الأخرى. أبرز قطبين صاعدين إلى الآن هما روسيا والصين. إذا استقرّ التحالف بين روسيا والصين، سيسرّع ذلك عملية الانتقال نحو التعددية القطبية، أما إذا نجح القطب الواحد في إبعاد أحدهما عن الآخر، فقد يؤدي ذلك إلى إطالة أمد الهيمنة الغربية لبعض الوقت، لا إلى الأبد طبعاً. هذه خلفية ما يجري حالياً. موسكو وبكين تدركان ذلك جيداً. أنا أعيش في موسكو ولدي صلات قوية مع النخبة المعنية بالشؤون السياسية والاستراتيجية، وأزور بكين بانتظام ولدي أيضاً علاقات قوية مع النخب الصينية، وما ألاحظه هو التطور المطّرد للتعاون الاستراتيجي بين البلدين. بوتين وشي جين بينغ يعيان لعبة الغرب، وحقيقة أن تبلور عالم متعدد الأقطاب مسألة وجودية بالنسبة إلى روسيا والصين. أشك في احتمال نجاح محاولات الغرب لدق إسفين بيننا».

اتجاه العلاقات الدولية على المديين المتوسط والبعيد هو قيام أقطاب في قلب العالم

المفكر الروسي لا يعتقد أصلاً أن أولويات الرئيس الأميركي تتعلّق بالوضع الدولي: «ترامب هو تعبير، بمعنى ما، عن واقع التعددية القطبية ومفاعيلها. شعاره أميركا أولاً يعلن التخلي عن المشروع العولمي وعودة للتركيز على أوضاعها الداخلية والتحديات التي تواجهها. من الممكن المقارنة بين المسار الذي شهده الاتحاد السوفياتي في السابق، وذلك الذي تشهده الولايات المتحدة اليوم. إذا كان أوباما هو غورباتشوف النظام الأميركي، أي الرجل الذي بدأ بالانسحاب من مناطق نفوذ الإمبراطورية، والذي حظي لهذا السبب بإطراء الإعلام العالمي والنخب الليبرالية، فترامب هو يلتسين هذا النظام، أي الرئيس الذي يعيد التركيز على الداخل، ويتخفف من أعباء الجمهوريات التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، انسجاماً مع منطق روسيا أولاً، بمعزل عن مدى نجاحه في معالجة مشكلاتها. الجدار الذي شرع الرئيس الأميركي في بنائه مع المكسيك يشكل قطيعة مع عقيدة مونرو التي أسست للإمبراطورية الأميركية من خلال توسيع نفوذها نحو وسط القارة وجنوبها، واعتبارهما حديقتها الخلفية».
ما هي إذاً دوافع تصعيده ضد إيران؟ «أنا أظن أن ترامب رجل سياسي محنك، وأنه يحاول الحصول على دعم قطاعات مختلفة من الناخبين، بما فيها تلك التي لم تُصوّت له. هو يكسب عبر تصعيده ضد إيران شعبية في أوساط أنصار الدولة العميقة والمؤيدين للتدخلات باسم القيم الليبرالية وضرورة تثبيت العولمة. لكنه يعلم أن القسم الأعظم من قاعدته الانتخابية انعزالي، ومعارض للحرب وللتورط في عمليات عسكرية خارجية. هو يلجأ إلى سياسة الضغوط القصوى والتهديد بالحرب، فيُضعف في إيران التيار الداعي إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة، ويعزز موقع ذلك الرافض للتنازلات والمتمسك بسيادتها وبمشاركتها في عملية البناء الأوراسي. نتائج سياسته تجاه روسيا والصين مشابهة، إذ تقود إلى تقوية الأجنحة الرافضة للهيمنة الغربية والساعية إلى تحالف أمتن بين الأطراف الدولية صاحبة المصلحة في قيام تعددية قطبية. توجهات ترامب المحافظة ونزعته الانعزالية العميقة تضعه في مصافي الحليف الموضوعي لنا، الذي يسهّل تحقيق مشروعنا».
دوغين يعتقد أن الاتجاه الثقيل والبنيوي في العلاقات الدولية على المديين المتوسط والبعيد هو قيام أقطاب في قلب العالم تضمّ روسيا والصين والهند والعالم الإسلامي وأوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تعيد تشكيل التوازن على الصعيد الدولي، الذي اختلّ بفعل الهيمنة الأميركية. هذا التصور لديه تأثير أكيد بسياسات الرئيس الروسي، مع أن «بوتين واقعي وهو يتخذ قراراته في ميدان السياسة الخارجية، آخذاً بالاعتبار مجموعة واسعة من العوامل، لا الأيديولوجيا وحدها. لكن القراءة الأدق للسياق الدولي العام الذي يتحرك فيه هي تلك التي يوفرها باراديغم تعدد الأقطاب. منذ 15 عاماً، دُعيت إلى جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة لتقديم محاضرة عن السياسة الخارجية الروسية، وأظهرت من خلال استعراضي لمجموعة من الإجراءات والخطوات التي قام بها آنذاك بوتين مدى مطابقتها لما سبق أن قلته في كتاباتي عن التوجهات الجديدة لروسيا. مضى على هذا الكلام أكثر من عقد، وتلته تطورات في أوكرانيا والقرم وسوريا أكدت ما ذهبت إليه».
منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة على الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، راجت اتهامات حول الدور الذي أدّاه ألكسندر دوغين والاستخبارات العسكرية الروسية في الكشف عنها وإفشالها: «قمت بذلك خلال مقابلة مع قناة تلفزيونية تركية بنحو 4 ساعات قبل المحاولة الانقلابية، عندما توقعت رداً من قِبَل الجهات المعادية لأردوغان على اعتذاره من روسيا على إسقاط الجيش التركي لطائراتها قبل بضعة أشهر. وكنت قد علمت من مصادر عدة أن أطرافاً نافذة تعارض بقوة الاعتذار، وأنها غير مستعدة للقبول به تحت أي ظرف. غير أن نوعاً من الحدس الجيوسياسي ساعدني على التوصل إلى استنتاجاتي بأن الوضع مرشح لتطورات خطيرة. الأميركيون أرادوا إطاحة أردوغان وتسليم السلطة لأنصار فتح الله غولن الذين يعملون معهم. توجهات أردوغان الاستقلالية وتقاربه مع روسيا أثارا غضب الأميركيين. قبل إسقاط الطائرة، حصل لقاء لم تلتفت إليه وسائل الإعلام بين أردوغان وبوتين، وافق خلاله الأخير بنحو غير مباشر، وطبعاً غير معلن، على دخول محدود لقوات تركية إلى الشمال السوري. عندما شعرت شبكات غولن وغيرها من الشبكات الموالية للولايات المتحدة بتقارب روسي - تركي، بدأت تعمل لعرقلته ووقفه. هذه الشبكات هي التي تقف خلف إسقاط الطائرة الروسية. كنت قناة بين بلدينا في تلك الفترة الصعبة، وتأكدت من دقة هذه المعلومات، ومن أن قرار إسقاط الطائرة لم يتخذه أردوغان. لقد أنجزت مهمتي التي تلخصت في المساعدة على تجنب الحرب بين البلدين وترميم علاقاتهما للعودة إلى التعاون. بوتين كان قد قطع كل الصلات الدبلوماسية مع تركيا، ولم ينجح سفيرها حتى في مكالمته. لقد ظن بوتين أنه تعرض للخديعة من قبل أردوغان، على رغم موافقته على دخول قوات تركية إلى الشمال السوري. اكتشف بعدها أن الجهة المسؤولة عن هذه العملية أعداء أردوغان. من الممكن المقارنة بين رد فعل الرئيس الروسي على إسقاط الطائرة، وذلك الذي تلا اغتيال السفير الروسي في تركيا. الفارق بين الموقفين كبير جداً. كنا في الحالة الأولى على حافة الحرب، أما في الثانية، فلم يحصل شيء لأننا عرفنا هذه المرة هوية الجهة التي نفذت عملية الاغتيال، وهي شبكات غولن نفسها. كنا أمام مؤامرة على أردوغان على صلة بالصراع القائم في العالم بين القطب الواحد المهيمن والأقطاب الصاعدة. تركيا مرشحة للتحول إلى قطب، كما هو حال روسيا، وإلى أداء دور مهم على مستوى العالم الإسلامي. إيران أيضاً مرشحة لتصبح قطباً في قسم آخر من هذا العالم. نتمنى أن يكون العرب جزءاً من هذا المشروع. يزور العديد من القادة العرب روسيا للحصول على دعم اقتصادي أو عسكري أو لتنويع شراكاتهم، ولكننا لا نجد حتى الآن شريكاً استراتيجياً قادراً على التعبير عنهم كمجموعة».

المفكر والخبير الاستراتيجي الروسي