النظرية السياسية الرابعة: روسيا والأفكار السياسية للقرن الحادي والعشرين

تعد الأفكار السياسية اجتهادات حول وضع الإنسان إزاء المجتمع والدولة وحول السلطة التي تصيغ هذه العلاقات. ويبحث  التفكير الجيوسياسي الإطار الواسع لهذا الوضع من خلال ربطه بنطاق التاريخ والعالم  ومجموع التفاعلات الحاصلة بين الوحدات  الدولاتية. لقد اتسع ميدان هذا الإطار وازدادت  الحاجة إليه لبحث دور النطاقات الجغرافية  في اتخاذ قرارات وصياغة تصورات السياسة  الخارجية ومستقبل النظام الدولي. منذ  الحرب العالمية الأولى، أدرك السياسيون  رؤية » والأيديولوجيون المغزى من تشكيل تكشف (Weltanschauung) « للعالم  للمواطنين وضع دولهم القومية ضمن تنافس  القوى الكبرى حول الأقاليم، واستراتيجياتها  ومستقبل كيان الدولة في « المديات » في صراع موجة  صراعات الظاهرة والخفية التي تتشكّل  وستتشكل على خريطة العالم.

إنّ الكتاب الذي بين أيدينا هو لأحد  المفكرين الروس البارزين، الأكاديمي  والناشط السياسي ألكسندر دوغين، وهو  من الشخصيات البارز حضورها في روسيا،  مستشار سابق لمجلس الدوما حول الأوضاع  الجيوسياسية، ومؤسس الحزب القومي  البلشفي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي،

التي « الدعوة إلى الأوراسيا » ومعروف ب  تحولت من الخطاب إلى حركة اجتماعية وحزب  سياسي. يستعيد دوغين في هذا الكتاب، الذييتوزع على خمسة أجزاء ويتكون من خمسة  عشر فصلًا في ٣٣٨ صفحة من الحجم  المتوسط، التاريخ النقدي والمحاججات  الفلسفية للدفاع عنه، كما يستعرض عبر  مقالاته المختصرة والموزونة ما يمكن أن  يشكل نظرية براغماتية لقادة روسيا، وأجندة  لسياساتهم.

مدخل إلى النظرية السياسية الرابعة

تبدأ النظرية السياسية الرابعة  أي .« نهاية الأيديولوجيات » من حيث بدأت  بعد فشل المشروع الحداثي الغربي والمصير  المأساوي الذي أنتجته أيديولوجياته الثلاث  الرئيسية: الليبرالية والشيوعية والفاشية،  ولم تستطع حماية الشعوب، أو أن تضمن  لها الرفاهية والسلام؛ فقد أفلست الليبرالية  (النظرية الأولى) حين دفعت الإنسان  العقلاني إلى الاغتراب والفناء والوهم بعدما  فككت مرجعياته. تقود الولايات المتحدة  الأمريكية المشروع الليبرالي بنمطه الاحتكاري  وتسعى إلى عولمته وفرض معاييره. فهما  حيث يتفق ما تقوم الليبرالية » ، يلتقيان  عليه من الفردانية وأن الإنسان معيار كل  شيء، مع سيطرة أمريكا باعتبارها مرجعاً  ص ٥٥ )، ولكن يثبت ) « للنظام العالمي  الوعي النقدي أن قيم الليبرالية زائفة؛ فالفرد  « المجتمع الاستهلاكي » المقدس والحر غدا مع  عبداً للسوق والسلع، والديمقراطية أصبحت  تنتج اللامساواة والاستبداد، لتتحطم بذلك  حول العقلانية والتقدم « السرديات الكبرى »  والمساواة.

وعن روسيا، فإن هذه الأيديولوجية  الليبرالية غريبة عن الشعب الروسي وتقاليده  ففي الواقع » السياسية والسوسيو – اقتصادية  يوجد ليبراليون في روسيا، لكن ليست هناك  .( ص ٥١ ) « ليبرالي  أيضاً، لا تعني أزمة الليبرالية أن وضع  اليسار بحال أفضل؛ ففلسفة اليسار (النظرية  الثانية) تشهد تحولات وأزمة في مشروعها  ومنطوقاتها الدوغمائية. وينقسم اليساريون عموماً إلى اتجاهات ثلاثة: اليسار القديم،

الشيوعية القومية، اليسار الجديد (النيو  يسارية، ما بعد الحداثي). وكلها تعاني فقدان  مشروع ثوري للمستقبل واكتفت بمطالب  لا تختلف من مطالب الليبراليين (تمثيل أكبر،  حرية، حقوق الإنسان، مساواة...). أما نسخة اليسار المتطرفة الفاشية (النظرية الثالثة)  التي مورست على يد موسوليني ومشروع  الاشتراكية القومية لهتلر، فهي لم تكن بالفعل ( ص ٧١ ) « نزعة دولاتية » اشتراكية بل كانت  بمعنى أنها عملت على تعبئة المكونات الاجتماعية - أحياناً بمنهجية قسرية – لخدمة جهاز الدولة.

وأمام ذلك كله، يطمح المؤلف لصياغةٍ  فلسفية متعالية هي بمثابة نظرية رابعة  تؤمن بعالم تعددي وأخلاقي؛ عالم يعترف بالشعوب الأخرى وبحريتها بعيداً من قيم  المركزية الغربية المفروضة. هو عالم ممكن، إذ استطاعت روسيا إنتاج أيديولوجية خاصة  بها، وتجسدت السيادة الجيوسياسية لقوى القارة الأوراسية (قوى البر) التي تشكلها  كل من: روسيا، الصين، إيران، الهند، ضد قوى الأطلسية. ووحدها أيديولوجية بديلة (Révolution ذات نزعة محافظة ثورية  « لا» قادرة على قول Conservatrice/RC) معارضة لخط الزمن التاريخي ومنطقه  بعقلانية ومنهجية. وتنطلق من تعزيز ماضي  الشعوب لكبح مشروع الحداثة، وإعادة الفرد  المستلب إلىلى « الجماعة » وإلى « الروح ».« الله »

السياق الجيوسياسي للقرن الحادي والعشرين: الحضارة والإمبراطورية

أسهب المؤلف في الحديث عن  جيوبوليتيكا الإمبراطوريات في القرن الحادي  والعشرين عبر جزأين كاملين مكونين من  خمسة فصول. ويبدو واضحاً أن مسألة  الإمبراطورية أضحت موضوعاً حيوياً في  السياسة العالمية، ورؤية استراتيجية لبعض  السياسيات الخارجية (في العمق الاستراتيجي،  يدافع أوغلو عن حركة إمبراطورية لتركيا،

ويدافع توماس بارنت عن إمبراطورية  تستطيع أن تجسدها خريطة « خيّرة » أمريكية  البنتاغون الجديدة). والإمبراطورية لدى المؤلف تحمل وجهين:

الأول، سلبي تجسده الآن الإمبراطورية  الأمريكية التي تسعى إلى عولمة القيم  واقتصاد السوق على شعوب تراها متخلفة  وما قبل حداثية، أو إمبراطورية إسلامية  مجتمع » جديدة (الإرهاب العالمي) تستفيد من  إذا « مجتمعات الكتاب » لتأسيس « الشبكة  ما نحن استعملنا مصطلح المفكر مانويل  كاستلز. وهناك إمبراطورية أوروبية مترددة  لا تزال غير قادرة (l’empire hésitant)  على تأسيس بُعد قاري مستقل من الأطلسية  وتحديد مصالحها القومية.

أما الثاني، فتظهر الإمبراطورية فيه  بتعبيرها الإيجابي، وهي إمبراطورية ضد  الإمبريالية، تؤمن بالتعدد وتدافع عن  الخصائص المختلفة وتصنع مكاناً للشعوب  المقصية. وفي ذلك تأتي الدعوة الأساسية  للمؤلف التي دافع عنها في كل كتاباته  تأسيس إمبراطورية » : وأنشطته منذ الشباب  « روسية قادرة على مواجهة التحدي الأمريكي  (ص ٢٢٣ ) تستعيد تأثيرها في المجال ما  بعد السوفياتي، وتتطلع إلى إدماج الشعوب وتمتلك روسيا » ، القريبة عبر رواية حضارية  في ذلك الخبرة التاريخية والدبلوماسية من  « أجل التنسيق بين الإمبراطوريات الجديدة  (ص ٢٣١ ). وهي رؤية تقترب من مواقف  اليسارية الجديدة التي تستلهم كتاب  الباحثين، أنطونيو نيغري وميشال هاردت  الإمبراطورية ( ١)، ويشكل بيانها السياسي.

فلا يكفي نقد الإمبراطورية والعولمة، وإنما  استعمال آلياتهما والاستفادة منها ضدهما.

إن النظرية السياسية الرابعة بوصفها  صياغة فلسفية ورؤية جيوسياسية، لن  تتجسد على الواقع إلا بتجسيد مشروع  الأوراسية الجديدة. يستلهم المؤلف في ذلك  أفكار الفيلسوف والحقوقي كارل شميث  الذي افترض منذ عهد سابق (Carl Schmitt) وجود فضاء أمريكي كبير تجب مواجهته  أخرى تسعى إلى « فضاءات كبرى » بخلق  تأكيد استقلالها. بذلك، يمكن إعادة ترتيب  العالم والخروج من نظام الأشياء الذي فرضته  السياقات التاريخية والسياسية. إن الأوراسية  الجديدة كفلسفة سياسية تشكل إيبيستيمية  فهي (l’Eurasie comme un épistème)  تفكك اللوغوس الغربي وفكرته للتقدم، وتفتح  الأفق لتعددية معرفية، ما بعد حداثية وما بعد  بنيوية، وما بعد ليبرالية تسعى إلى تخليص  الشعوب من الخضوع والاستغلال.

غير أن السؤال الذي يواجهنا: ألسنا  أمام الخطاب الأيديولوجي الاشتراكي نفسه،  مرحلة الحرب الباردة (الضعيف مقابل  القوي)، وتم فقط استبدال المعطى الاقتصادي  بالمعطى الثقافي الأخلاقي، أي الجيواقتصاد  بالجيوثقافة؟  تقوم الأوراسية الجديدة على نظام  للقيم، وتجمِّع حضاري خاص لروسيا،  عناصرها: الشعب، « قصيدة سياسية » إنها  الأرض، الأبدية. يقوم الشعب الأوراسي من طريق الحب (القومية الشهوانية)، مقابل  أداتيه الدولة، وعبر حيوية لغته، ومن طريق  تجسيد الإنسان الروسي كمطلق. من هنا،  يمكن التأكيد أن فلسفة دوغين حول الإنسان  (والإنسان الروسي) تجد لها جذوراً في الثيولوجيا الأرثوذكسية، وترتكز على مفهوم  كما وضعه هايدغر في (Dasein) الدازين  مؤلفه الأساسي الكينونة والزمان الذي يتجاوز  الوجود كدلالة للموجود نحو الوجود في حد  ذاته، وعبر وعيه بوجوديته في العالم. تكون  النظرية الرابعة وعياً بالوجود الجغرافي  والأوراسية معها، التي تعتبر الإنسان الروسي  كائناً أنطولوجياً يأخذ كينونته من ذاته، وليس  من المرجعية الخارجية (الغربية).

وعن مفهوم دوغين للأرض، يمكن أن  نتلمس وفاءه للمدرسة العضوية في علم  الجيوبوليتيكا، حين يعتبر الفضاء نمطاً  ويدعو إلى (Staat Als Lebensform) للعيش  فجبل » ، الدفاع عن الحدود الحيوية للأوراسيا  صربيا مثلاً يعد روحاً حيوية للذاكرة الجماعية  .( ص ٢٤٧ ) « والانتما  أما من حيث العنصر الثالث، فهو لا يفهم  الأوراسية كجسد منتهٍ في الزمن والواقع، بل  هي روح أبدية مقدسة، خارجة عنا. إنها، إذا ما  استعملنا تعبير السهروردي، جغرافية الذات،  وهي قادرة على منح الحرية لهذه الذات.

المساحات الأيديولوجية للسياسﯩة  الروسية المستقبلية

قبل تحديد موقع روسيا الاستراتيجي،  وجب الإشارة إلى أنها يجب أن تعالج تحديات  داخلية تخص تمثيل الأصول الاجتماعية  والإثنيات المتباينة، والاختيار بين أيديولوجية  ليبرالية أو محافظة، ومعالجة الآثار السلبية  للتحديث في هوية المجتمع. من بين التحديات  الرئيسية، أن جهاز الدولة (اللفياثان) الذي يقوم على التخويف والاخضاع، فقد هيبته  وأصبح مجرد شبح، وهو يشتغل من طريق  النهب والفساد. عليه، فالحل الأوراسي وفق  النظرية السياسية الرابعة يكمن في تشكيل  نظام البوليس ) opritchnina نظام جديد هو  السري والقمع الذي عرفته روسيا في القرن  السادس عشر، كان له الفضل في تأكيد قوة  الحضارة الروسية).

 

ونلاحظ هنا وفاء دوغين للتقليد  الماركسي الذي يرفض الدولة، ويسعى إلى  تجاوزها. ويقرر أن صيغة الديمقراطية  لا تتوافق مع الإمبراطورية. نقرأ في الكتاب  وجود دولة روسيا هو الآن » :( (ص ٣٠٣  افتراضي، ما هي إلا صور مسطحة لعرض  سينمائي، ما هي إلا جزء من ذاكرة لم تمحَ  يمثل .« بعد، ولا شيء أكثر، بالمطلق لا شيء  فلاديمير بوتين تفاؤلاً لخدمة الأوراسية، فقد  أعطى اهتماماً بالجيوبوليتيكا، فاقترب من  أوروبا، وواجه أمريكا، لأن الغرب ليس واحداً.

تعبر سياسته عن وعي هوياتي، وخصوصاً أنه  مارس التدخل الحاسم، كما تقرر النظرية، في المجال ما بعد السوفياتي (جورجيا، أوسيتيا .( الجنوبية، أبخازيا، أوكرنيا)( ٢ يجب قراءة ألكسندر دوغين  يعد المفكر والناقد الفرنسي المعارض في التقديم الذي (Alain Soral) آلان سورال خص به الطبعة الفرنسية أن قراءة أفكار دوغين ومشروعه النظري تعدّ ضرورية؛ فهي  طريقة تشكيل جبهة حلفاء ضد قوى الأطلسية  ومشروع التنمية الذي يشرف عليه الغرب، هي  دفاع عن الهامش ضد المركز. وعلى الرغم من  أن قراءة هذا المشروع النظري تبدو مركبة  ومعقدة وخلفية منطوقاتها ما بعد حداثية،  فبساطتها تأتي من تجسيد فكرة واحدة:

مواجهة الهيمنة الأمريكية جيوبوليتيكياً، وقيم  الغرب حضارياً. إن تبسيط الخطاب الأوراسي  على هذا النحو، يجعله يتجلّى ويُستوعب في  الحياة اليومية كممارسة.

نحن هنا، إزاء ما يسمىالجيوبوليتيكا “ الشعبية"التي (Popular Geopolitics)هي خطاب جغرافي يرسم خرائط في

أذهان المواطنين عبر اللغة والتواصل  والتمثلات، وباتت تعرف الآن رواجاً. أكثر  من ذلك، فالنظرية تبحث حضورية الإنسان  الروسي، وهم الوجود في جغرافية الأوراسيا  والعالم (الوجود - هنا)، فيصبح بذلك بحثاً في   « جيوبوليتيكا وجودية » ما إن صح أن أسميه

 


 

Alexandre Douguine La Quatrième théorie politique: La Russie et les idées politiques au XXI ème siècle (Paris: Ars Magna Editions, 2012). 338 p.

 

١) انظر: مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، الإمبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة، ترجمة فاضل جتكر ).( (الرياض: مكتبة العبيكان، ٢٠   ٢٢اعتبرت مجلة الشؤون الخارجية دوغين العقل المدب ر للرئيس بوتين، وفلسفته التيولوجية الأوراسيةوراء ضم القرم. انظرAnton Barbashin and Hannah Thoburn, «Putin’s Brain: Alexander Dugin and the Philosophy Behind Putin’s Invasion of Crimea,» Foreign Affairs (31 March 2014), <https://www.foreign affairs.com/articles/russia-fsu/2014-03-31/putins-brain>.