الممرّ الإقتصادي العابر للقارات في بعده الجيوبوليتيكي

الممرّ الإقتصادي العابر للقارات في بعده الجيوبوليتيكي

في كتاب «الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة» للمفكّر الروسي ألكسندر دوغين ورد سؤال مهمّ مفاده: ما هي العلاقة بين الجغرافيا السياسية والاقتصاد؟

ولأنّ الموضوع ذو أهمية تمّ طرحه بصيغة سؤال، كون الإجابة عنه بحاجة لتحليل معمّق للكثير من الوقائع والحقائق التي تشير وتؤكد أنّ ثمة علاقة وطيدة بينهما، وما السؤال إلا تأكيد على أنّ الاقتصاد لا يزال أحد المحفّزات الفاعلة في تاريخ البشرية، الذي شكّل على الدوام الخلفية الراسخة لبناء السياسات الدولية المعبّرة عن صراع المصالح الكبرى.

يمكن القول إنّ المنطقة مقبلة على تحوّلات مهمّة بعد توقيع مذكرة التفاهم لإنشاء ممرّات اقتصادية عابرة للقارات تربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، بهدف تعزيز كلّ عناصر الاقتصاد العالمي، بدءاً بأمن الطاقة، وتطوير الطاقة النظيفة، وصولاً إلى إنشاء خطوط للسكك الحديدية وربطها بالموانئ لتوسيع نطاق التبادل التجاري ومرور البضائع.

الرئيس الأميركي جو بايدن وصف الاتّفاق بالتاريخي، أمّا ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان فقد أكّد أنّ «المشروع يحقّق المصالح المشتركة لدولنا من خلال تعزيز الترابط الاقتصادي وهو ما ينعكس إيجابياً على شركائنا في الدول الأخرى والاقتصاد العالمي بصورة عامة». الجدير ذكره أنّ هذا التفاهم بين السعودية والولايات المتحدة قد تمّ بمشاركة فرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتّحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة.

يعتبر وجود المملكة العربية السعودية في هذا التفاهم ضمانة لإعطاء المشروع بعده التنموي الاقتصادي، غير الموجّه ضد أي طرف دولي آخر، وإن ربطه البعض بسعي الولايات المتحدة إلى بناء منظومة ممرّات دولية لمواجهة المشروع الصيني المعروف بـ»مبادرة الحزام والطريق». وما يؤكد هذا الأمر العلاقة الجيدة بينها وبين الصين التي رعت توقيع التفاهم بين إيران والسعودية.

فالمملكة باتت في موقع المؤثر في السياسات الاقتصادية العالمية نظراً لوجودها في مجموعة دول العشرين التي تهتمّ بالاقتصاد العالمي وبقضاياه الرئيسية. وهي معنية بتكريس السلم والأمن الدوليين كهدف ثابت في سياستها الخارجية، التي تعبّر عن إدراكها المصالح الجوهرية لدول الخليج العربي التي تضع الخطط التنموية المتوسطة والبعيدة المدى لتطوير بلدانها ورفاهية شعوبها، وأولى تلك المصالح تعزيز أمن واستقرار المنطقة. فلا ازدهار بلا استقرار، ولا استقرار بلا أمن.

غني عن القول إنّ التطوّر الهائل والحاصل على صعيد وسائل ووسائط الاتّصال والتواصل، قد أعطى الجيوبوليتيك مفهوماً جديداً، إنما من دون أن يغيّر طبيعته. فالجيوبولتيك قد تمّ وصفه على أنّه يسعى «لتعظيم المكاسب القومية»، وجوهره يقوم على تحليل العلاقات السياسية الدولية انطلاقاً من البعد الجغرافي. وراهناً بعد توقيع هذا التفاهم بشأن إنشاء تلك الممرّات، أصبح الجيوبوليتيك داخلاً في إطار تحقيق مصالح دولية مشتركة قد يؤسّس لعلاقات دولية مختلفة في الشرق الأوسط والعالم.

وبعيداً عن الارتهان المبالغ فيه للتفاؤل المفرط، فمن نافل القول إنّ ثمة قوى دولية أخرى، ستجد في هذا التفاهم تهديداً وجودياً لها، وستقوم بقراءة مضامينه من خلال تعارض المصالح، فروسيا بتفكيرها الاستراتيجي الأوراسي تعتبر أنّ مجالها الحيوي كناية عن «شريط شاسع يمتدّ من أوروبا الغربية عبر الشرق الأوسط مروراً بإيران والهند والصين وصولاً حتى الهند الصينية والمناطق الجنوبية من هلال المحيط الهادئ».

أمّا الطموح الصيني فبات في مرحلة جيوبوليتيكية متقدّمة من خلال الاستثمارات التي موّلت مشاريع بنى تحتية كلّفت المليارات من الدولارات، هذا من دون أن ننسى أنّ بين روسيا والصين معاهدة صداقة (2001) فضلاً عن تواجدهما في منظّمتي «شنغهاي للتعاون»، و»مجموعة البريكس» التي تهدف أيضاً إلى تمويل مشروعات التنمية المستدامة والبنى التحتية اللازمة لتطوير اقتصاديات الدول الأعضاء وغيرها من الدول.

أمّا إيران فهي أيضاً معنية بشكل مباشر، بهذا المستجدّ الخطير، كون تلك الممرّات في حال دخلت حيّز التنفيذ تصبح في عداد المصالح الاقتصادية الدولية، ليس الخليجية فقط، وأي تهديد لها سيعتبر تهديداً وجودياً لتلك الدول، ما يفرض على الجانب الإيراني أخذ هذا الواقع في الحسبان، الذي سيغيّر من طبيعة الوقائع السياسية والأمنية والاقتصادية في منطقة الخليج العربي ثم الدائرة الأوسع.

أمّا في ما يتعلّق بلبنان الغارق في أزماته، فعلى ما يبدو ستفوته هذه الفرصة التاريخية، ليحتلّ مرفأ حيفا الصدارة، بعدما كان مرفأ بيروت سيّد الموقف لعقود خلت.

https://www.nidaalwatan.com/article/204646