الغرب جعل الإسلام عدوا له
التبويبات الأساسية
ترجمة : نورالدين علاك الأسفي [1]
zawinour@gmail.com
في إسرائيل وقطاع غزة، وقعت كارثتان واحدة تلو الأخرى: هجوم حماس على الدولة اليهودية؛ مع العديد من الضحايا المدنيين، بما في ذلك أخذ الرهائن، والضربات الإسرائيلية الانتقامية على قطاع غزة، والتي تتجاوز بكثير في القسوة وعدد الضحايا المدنيين، خاصة النساء والأطفال. العملية البرية للجيش الإسرائيلي جعلت الوضع أكثر كارثية، و زاد عدد القتلى- بمن فيهم الأطفال والنساء وكبار السن- إلى مستويات لا يمكن تصورها.
وكلاهما انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية، ولا يمكن تبريرهما بأي شكل من الأشكال. ومع ذلك، فإن مبادئ ليكس تاليونيس/ lex talionis (العين بالعين) التي تطبقها إسرائيل أدت إلى إبادة جماعية حقيقية لسكان قطاع غزة، الذين أجبروا بالفعل على العيش في ظروف وحشية لمعسكر اعتقال. لقد ارتكبت حماس عملا إرهابيا [**] ؛ وردت إسرائيل بعمل إبادة جماعية واسعة النطاق. لقد وضع كلاهما نفسيهما خارج القانون والأساليب الإنسانية المقبولة لحل النزاعات السياسية.
ولكن بعد ذلك تبدأ الجغرافيا السياسية. فبالرغم من أن حجم الجريمة الإسرائيلية أكبر بكثير، إلا أن تقييم ما يحدث في قطاع غزة لا يعتمد على هذا، ولكن على انتظامات جيوسياسية أعمق. دعونا ننظر إليها بشكل منفصل عن الجانب الأخلاقي للمشكلة.
النظام العالمي الحالي انتقالي. اليوم، هناك تحول من عالم أحادي القطب (تشكل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكيك الكتلة السوفيتية) إلى عالم متعدد الأقطاب. غدت أقطابه بالفعل متميزة. فها روسيا والصين والعالم الإسلامي والهند، مع اقتراب إفريقيا وأمريكا اللاتينية. هذه في الأساس، حضارات مستقلة تماما. أهمها ممثلة في مجموعة البريكس، التي - خاصة بعد قمة 2023 في جوهانسبرج-توحد كل هذه الحضارات (انضمام المملكة العربية السعودية وإيران ومصر يدل على وجود دول رئيسية في العالم الإسلامي؛ إثيوبيا تقوي العامل الأفريقي، والأرجنتين تكمل جوهر دول أمريكا الجنوبية). العالم المتعدد الأقطاب يعزز مكانته كل يوم. و الهيمنة الغربية تضعف.
ومع ذلك، فإن القيادة العالمية للغرب، وفي المقام الأول الولايات المتحدة الأمريكية، تسعى جاهدة بأي ثمن للحفاظ على الأحادية القطبية، وتصر على هيمنتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية الواسعة النطاق. هذا هو التناقض الرئيسي في عصرنا: تصعيد المواجهة بين أحادية القطب وتعدد الأقطاب. و في السياق هذا، ينبغي النظر في الصراعات والعمليات الرئيسية للسياسة العالمية.
إن الرغبة في إضعاف روسيا ذات السيادة، وإعادة تأكيد نفسها كقطب مستقل، هي بالضبط ما يفسر الصراع في أوكرانيا.
في ذات الآن، يدرك بلدنا تماما أنه لا يمكن أن يكون واحدا من قطبين، كما كان الحال خلال الحقبة السوفيتية. الحضارات الجديدة آخذة في الصعود-وروسيا ترى فيها حلفاء وشركاء في التعددية القطبية الحقيقية والعادلة. العالم لم يدرك بعد هذا، لكن الوعي المتعدد الأقطاب ينمو و يتعزز تدريجيا.
الأمر نفسه ينطبق على قضية تايوان، التي يمكن أن تصبح (وستصبح يوما ما) خط المواجهة التالي بين أحادية القطب وتعدد الأقطاب؛ هذه المرة في منطقة المحيط الهادئ.
إذا فهمنا جوهر إستراتيجية أولئك الذين يعانون بشدة من محاولة إنقاذ العالم أحادي القطب والهيمنة الغربية، فيمكننا بوعي؛ بناء نموذج للمقاومة بديل له، وكذلك التحرك جماعة و بثقة نحو إنشاء عالم متعدد الأقطاب.
لكن الأحداث في إسرائيل، وهجوم حماس، والإبادة الجماعية الانتقامية من قبل إسرائيل للفلسطينيين فتحت خط مواجهة آخر. الآن الغرب؛ و من خلال دعمه غير المشروط والمتحيز لإسرائيل (كالحال في أوكرانيا)، و بالرغم من الطبيعة الفظيعة لجرائم جيش الدفاع الإسرائيلي ضد السكان المدنيين في قطاع غزة، دخل مرحلة المواجهة مع العالم الإسلامي بأسره. و هكذا، ظهر قطب آخر في المقدمة؛ انه القطب الإسلامي. ففي مواجهة ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة وفي بقية الأراضي الفلسطينية، وبالنظر إلى سالف الجور ضد سكان فلسطين، الذين دفعوا إلى أحياء معزولة و محميات على أرضهم، فلا يمكن للعالم الإسلامي إلا أن يحقق وحدته.
توحد القضية الفلسطينية اليوم كلا من السنة والشيعة والأتراك والإيرانيين والأطراف المتعارضة في الصراعات الداخلية في اليمن أو سوريا أو العراق أو ليبيا. يتعلق الأمر بشكل مباشر بالمسلمين في باكستان وإندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش. و لن تترك المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، في روسيا، أو في أفريقيا غير مبالين. و بالطبع، فإن فلسطينيي غزة والضفة الغربية، و بالرغم من الاختلافات السياسية، متحدون اليوم في نضالهم من أجل الكرامة.
في العقود الأخيرة، دبرت الولايات المتحدة الأمريكية بسلاسة توحيد المسلمين حول القضية الفلسطينية، وتقسيمهم إلى مجموعات، ثم إجبارهم بالقوة والدهاء على تطبيع العلاقات مع إسرائيل. لكن السياسة هذه؛ تحطمت كلها إلى أجزاء في الشهر الماضي. إن الدعم الواضح لإسرائيل، و حتى بعد ما عملته فعلا في قطاع غزة أمام البشرية جمعاء، يجبر العالم الإسلامي على تجاوز التناقضات الداخلية والدخول في مواجهة مباشرة مع الغرب.
إسرائيل، مثل أوكرانيا، هي مجرد وكيل للهيمنة الغربية، واثقة من نفسها وقاسية، ولا تنأى بنفسها عن أي جرائم أو خطابات أو أفعال عنصرية، لكن المشكلة ليست فيها. إنها مجرد أدوات للجغرافية السياسية الكبيرة؛ الجغرافية السياسية لعالم أحادي القطب. مؤخرا قال رئيس روسيا بذلك صراحة عندما تحدث عن العناكب التي تنسج شبكة عالمية من العداء والخلاف. كان يشير بالتحديد إلى العولمة وتكتيكهم الاستعماري المتمثل في فرق تسد . لكن إذا فهمنا جوهر استراتيجية أولئك الذين يعانون بشدة من محاولة إنقاذ العالم أحادي القطب والهيمنة الغربية، فيمكننا بوعي؛ بناء نموذج بديل لمقاومتها، وكذلك التحرك جماعيا و بثقة نحو إنشاء عالم متعدد الأقطاب.
إن الصراع في قطاع غزة (وعلى نطاق أوسع، في فلسطين ككل) هو تحد مباشر يتم إلقاؤه على العالم الإسلامي بأسره، وليس على دولة منفصلة؛ ولا حتى على العرب بالإطلاق. في الأساس، دخل الغرب في حرب مع الإسلام نفسه. هذا مفهوم جيدا من قبل جميع القادة تقريبا: من سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى أردوغان، ومن آية الله خامنئي إلى قيادة باكستان، ومن تونس إلى البحرين، ومن السلفيين والوهابيين إلى الشيعة والصوفيين. و على المعارضين السياسيين في فلسطين نفسها، في سوريا وليبيا ولبنان، وكذلك الشيعة والسنة، الحفاظ على كرامتهم وإثبات أن المسلمين هم حضارة مستقلة ذات سيادة لن تسمح بمثل هذه المعاملة.
هدد أردوغان الغرب بالجهاد واستذكر الحروب الصليبية. هذه مقارنة مؤسفة للغاية. ليس للغرب العالمي الحديث أي شيء مشترك مع الحضارة المسيحية. فمنذ عدة قرون، قطع الغرب العلاقات مع الثقافة المسيحية وانحاز إلى المادية والإلحاد والفردية. ليس للمسيحية أي شيء مشترك مع علم مادي، مع النظام الاجتماعي والاقتصادي للجشع المطلق، مع تقنين الانحرافات وإعلان علم الأمراض كقاعدة، مع الاستعداد للانتقال إلى وجود ما بعد الإنسان. الغرب الحديث ظاهرة معادية للمسيحية، وهو لا يحمل أي صليب معه أو على ذاته. إسرائيل دولة يهودية وعلمانية، غربية، لا علاقة لها بالمسيحية أيضا. لذلك، إذا تصادم العالم الإسلامي مع الغرب، فلن يكون الأمر كما هو الحال مع حضارة المسيح، ولكن كما هو الحال مع حضارة المسيح الدجال. [2]
------------
[1] في البال: المقال المترجم رهن الإحاطة علما؛ لا تبني فحواه جملة أو تفصيلا. المترجم.
[2] رابط المصدر:
https://www.geopolitika.ru/en/article/west-has-made-islam-its-enemy
[**] ".. لقد ارتكبت حماس عملا إرهابيا؛ وردت إسرائيل بعمل إبادة جماعية واسعة النطاق. لقد وضع كلاهما نفسيهما خارج القانون والأساليب الإنسانية المقبولة لحل النزاعات السياسية.ولكن بعد ذلك تبدأ الجغرافيا السياسية..". الكسندر دوغين.
و الحقيقة التي لا ترتفع؛ نراها بقلب الوضع حتى لا يذهب بنا القياس على نحو مغالط.
و قبلا كانت الجغرافية السياسية ( كمحصلة لرهان استعماري غاشم؛ وعد بلفور،..)؛ سمحت لكيان وكيل و غاصب بوضع نفسه خارج القانون؛ فاعتمد أساليبا غير مقبولة لاضطهاد شعب فلسطين الأعزل. سلبت أرضه؛ فغدت مقاومته مشروعة. كل مساعيه في حل نزاع سياسي غيبت قهرا. و من راكم ثمانية عقود قهرا و ظلما؛ و بقوة الحديد و النار عبث بقضيته عسفا؛ أنى له أن يبقى مرهونا لاضطهاد لا يكل. فشاء أن هب لمقاومته؛ بكل ما أوتي من قوة؛ و بما يراه حقيقا بتحرره.
"لقد ارتكبت حماس عملا إرهابيا؛..."
التوصيف إياه؛ من وجه لا نستسيغه من الفيلسوف دوغين؛ فبالأحرى مسايرته في طرحه. أ مرد الأمر في رمته؛ إلى دغدغة لمشاعر على حساب. كان لا بد من سوقها لمتلق على طرفي نقيض؛ رامها دوغين عمدا لرواج مقاله أم أدرجها جريا على أن ما شاع لا حرج في اعتماده لما ذاع. ولم يجد أمامه بدا من ادراجها على عواهنها بمضض.أم كانت لزمة إقحامه تحصيل حاصل تفرضه حساسية داخلية محايثة من محيط نخب رأت ذلك صوابا؛ و الانتصار ضده قد يسقط من مصداقيتها. ام عمل لحساب نالت منه البروباغندا الصهيونية؛ فعسر التحرر من قبضة أجندتها.؟!
لقد عرج دوغين على النعت المشين في شظية خطابية متهافتة؛ كان لا بد منها من غير أن ينصف التاريخ و هو المطلع؛ و إن بدا أنه طلع منها بالعجلى قبل أن تنطلي عليه خدعتها التي استشرفها؛ و إن بدا أنها نالت منه هنيهة. فتحول عنها بسرعة و تعداها؛ بعد أن وطنها قسرا في مقاله. و الفيصل؛ ما جاء تباعا في المقالة يشفع رفع هذه الهنة. و يبقى بلا حسم إلا ما كان لحاجة في نفس دوغين قضاها. فهذا هو سر البروباغندا؛ فأولئك الذين يجب إقناعهم بها يجب أن ينغمسوا تماما في أفكار الدعاية، دون أن يلاحظوا أبدا أنهم منغمسون فيها.
فمن واقع أن القضية الفلسطينية قضية أمة؛ نضالا و مقاومة لاسترداد حق سليب. لن تسقط بالتجاهل أو التقادم أو التطبيع. نقرها حقا مشروعا في المقاومة. و العالم بأسره داعم لها بقوة. أما الآخر فيسوغه إرهابا ليشرعن هجمة الإبادة و التطهير العرقي. كمعادل للانتقام و الدفاع عن النفس المغرض.و هذا ما سيتنبه إليه دوغين في نفس الفقرة. بعد أن ساق نعته على وجه بلاغة التوصيف؛ سرعان ما تعداه قبل أن تأخذه الخطابة على أحكام قيمة أخلاقية؛ تبغي الانتصار و لو هنيهة للحس الإنساني السليم. لم يرس يوما عدلا أو ينصف قضية. فبالأحرى يعدل واقعا أو يستشرف مستقبلا. لتبقى القراءة الإستراتيجية معنية بالإقرار؛ بعيدا عن أحكام القيمة المبيتة؛ فنعوتها المزيفة ذات المعايير المزدوجة لن تنطلي على من خبر قناعات موازين القوى العالمية و خياراتها الجيوسياسية بحثا و تأليفا.
يبقى كل سؤال استنكار في حيرة من أمره. نعتبرها سقطات من دوغين على علاتها. لم يكن هناك من مسوغ لتركها تمر علينا؛ و العالم اكتوى منها و الغرب رفعها كشعار مجاني؛ و علقها يافطات مستهلكة للنيل من مناعة شعوب عدة و من تطلعات و ممانعة منطقتنا.
و ها السردية الإسرائيلية التي يتكشف زعمها؛ كل يوم تتهافت. ليكتشف الجميع أن ما سوقه الغرب و الصهاينة يوم السابع من أكتوبر هو مناف للحقيقة. فقد بات معلوما بالضرورة عند الجميع من تحقيق صحيفة هآرتس الإسرائيلية. أن مروحيات إسرائيلية هي من قتلت و نكلت و أحرقت من كان بمهرجان نوفا في غلاف غزة العزة.
و الحاصل؛ أن أحداث التاريخ صدف لمن يحياها؛ و لدى لملاحظ البعيد تكتسي حلة الضرورة. أما الدعاية - بتعبير جوزيف غوبلز؛ فتعمل بشكل أفضل عندما يتم التلاعب بأولئك الذين هم واثقون من أنهم يتصرفون بإرادتهم الحرة. (نورالدين الأسفي).