جيوبوليتيكا روسيا .. المدى الكبير الجديد بين العولمة والإمبراطورية
التبويبات الأساسية
بالنسبة للتكامل ما فوق الدولي هناك أيضا توزع سياسي متناقض إلى حد ما، فهناك من جهة، "المشروع العالمي" الذي يفترض إزالة كاملة للدول التقليدية وإقامة حقل حضاري كوني يدار من طرف مركزي واحد يمكن تسميته اشتراطيا ب"الحكومة العالمية". وهذا المشروع في أساسه هو الخاتمة المنطقية للاتجاهات الليبيرالية التي تحاول تدمير جميع البنى الاجتماعية التقليدية واصطناع مجال "إنساني عام" موحد مكون لا من الشعوب بل من "الأفراد"، لا من الدول، بل من جمعيات تكنوقراطية ومن عمال غير مهرة. على هذه الصورة بالذات ظهرت في عيون عولميي بدايات القرن "الولايات المتحدة الأوروبية"، التي كان يحلم بها الرأسماليون الليبيراليون (مونيه، كودينوف، كاليغري وسواهم) والشيوعيون (تروتسكي وآخرون)، وفيما بعد ألهمت هذه الأفكار مصممي ما ستريخت وإيديولوي " النظام العالمي الجديد".
إلا أن هناك صيغة موازنة لهذا الافق العولمي، تحميها القوى السياسية غير الملتزمة. والحديث يدور حول منظري الإمبراطورية الجديدة على القاعدة التعاونية والدينية. ومثل هذا الفهم "للمدى الكبير الجديد" ينبثق لا من النظرية الكمية نحو التكامل (كما هو بالنسبة للعولميين) بل من مبدأ روحي فوق القومي، والذي كان يمكن أن يبدو متساميا بالنسبة للتكوينات التاريخية القائمة ويمكنه أن يجمعها معا في تركيب مقدس أعلى. وطبقا للظروف يتخذ "المشروع الإمبراطوري" أساسا له أمام العامل الديني ( المناصرون الكاثوليك لانبعاث إمبراطورية النمسا والمجر) أو العرقي (إيديولوجيو الإمبراطورية الأوروبية الموحدة بوحدة أصل الشعوب و"اليمينيون الجدد" الفرنسيون من بينهم بصفة خاصة)، أو العامل الجيوبوليتيكي (نظرية البلجيكي جان تيريار) أو الثقافي (مشاريع الأوراسيون الروس).
وبناء عليه نجد هنا قطبين أساسيين متعارضين، يريان واقعين جيوبوليتيكيين متشابهين ولكن ضمن أفق معكوس.وهكذا فقد أبرزنا في كل واحد من المشاريع الجيوبوليتيكية نظرتين متناقضتين متباينتين بصفة جذرية، وهو ما يحدد في مجموعه كافة الإمكانات الأساسية للصراع الإيديولوجي حول المسائل البدئية. و بفضل مثل هذ ا المخطط يمكننا تصنيف التحالفات السياسية المختلفة بين قوى يبتعد بعضها عن البعض الآخر إلى حدود كبيرة.جيوبوليتيكا روسيا
ترتبط الإشكالية العامة للبناء الجيوبوليتيكي في العالم المعاصر بعلاقة مباشرة بروسيا، حيث تلتقي بنفس المشاريع الجيوبوليتيكية الأساسية.فللأصناف الثلاثة (الإقليمية، الدولة-الأمة ، المدى الكبير) نظائر مباشرة في واقعنا الجيوبوليتيكي.
تتطابق الإقليمية مع الاتجاهات الانفصالية ضمن نطاق الفيديرالية الروسية، سواء في الجمهوريات القومية والأقاليم أو حالة التطلع إلى الاستقلال الذاتي الكامل للتشكيلات الترابية المحضة (مشاريع جمهوريتي سيبيريا والاورال وغيرهما).
فهناك أنموذج المركزية الحكومية ويدعو إليه أنصار المشروع الجيوبوليتيكي "روسيا ضمن حدود الفيديرالية الروسية".
وكذلك هناك من يدعو إلى إعادة الاتحاد السوفييتي، إعادة الإمبراطورية الروسية ضمن إطار الاتحاد السوفييتي، أو إفامة الأمبراطورية الأوراسية، وهم ينتمون إلى صنف منظري المدة الكبير الجديد.
وعلى نحو ما هو الأمر في التصميم العام فليس من الضروري إطلاقا أن يعتنق أنصار هذا المشروع و ذاك قناعات سياسية واحدة. يمكن أن تكون لكل مشروع شارتان قطبيتان تحددان اشتراطيا ب "اليمينية الروسية" أو اليسارية الروسية".
فلنحاول تحديد مواقع اليمينيين واليساريين في الحياة السياسية الروسية بالنسبة لوجوهها الجيوبوليتيكية الثلاثة.
فالتوجهات الانفصالية في "الجناح الأيسر" الأكثر تطرفا تستخدم من قبل نفس القوى التي وقفت وراء دمار الاتحاد السوفياتي. فمن خلال اعتبارهم الدولة السووفياتية معقل "الرجعية" و"الشمولية"، طرح الليبيراليون الروس منذ زمن بعيد أفكار "روسيا داخل حدود القرن الرابع عشر" وما إليها، وهو ما افترض تفتيت الاراضي الروسية الى جزيئات منفصلة وفقا للمبدأ الاتني ووفقا للمبدأ الجغرافي الصرف في الوقت نفسه. فوحدة الأمة الروسية وقوة الدولة الروسية لا تعنيان لهؤلاء اليساريين أية قيمة تاريخية، بل إنهم على العكس من ذلك، يرون فيها عقبة في طريق " التقدم" على الصعيد الإنساني العام. وهذا المشروع الإقليمي، يلقى من يدافع عنه من طرف بعض الليبيراليين المتطرفين اللذين يرغبون في انهيار الفيديرالية الروسية.
والصيغة "اليسارية" للبرنامج الوطني الحكومي ضمن حدود الفيديرالية الروسية جسدت القيادة الروسية بعد الغورباتشوفية التي كانت على قناعة أن من الأكثر جدوى من أجل إجراء الاصلاحات هو تطبيق الأساليب المركزية بإخضاع كافة الروسة لخط موسكو المتشدد. والمركزية الحكومية تعد في مفهوم هذه القوى الوسيلة الأفضل والأسرع لتحويل واقع روسيا الاجتماعي والسياسي بطريقة تصل الى المعايير الانسانية التقدمية، أي المعايير "الغربية" الأطلسية في حقيقة الحال.
وتوجد وتشتد قوة حركة الحكوميين "اليمينيين" وهؤلاء هم وطنيون سلمو بانهيار الاتحاد السوفياتي، ويرون أن خلق دولة روسية مركزية قوية من الفيديرالية الروسية يمكن أن يعزز تماسك الأمة الروسية. واليمينيون يرفضون الانفصالية والإمبرالية لأن تفتيت الفيديرالية الروسية يعني، في رأيهم تضييع الروس للأراضي التابعة لهم، أما التوسع الإمبراطوري فسيجيء بعدد كبير من العناصر غير القومية وسيهدد الهيمنة القومية للروس.
والأوراسية "اليمينية" تنطلق من فهم إمبراطوري للرسالة التاريخية لروسيا التي ينبغي أن تكون إما قارة مستقلة مكتفية بذاتها، أو أن تنحرف عن مهمتها التاريخية.