الجيوبوليتيكا الداخلية لروسيا والعقيدة العسكرية مرتبطة بمهمتها الكونية.
التبويبات الأساسية
لا يمكن للتحليل الجيوبوليتيكي للمشاكل الجيوسياسية في داخل روسيا أن يتحقق بدون احتساب اللوحة الشمولية العامة لموقع روسيا في الخريطة الجيوبوليتيكية. ولا يمكننا إلا إذا أخذنا في الحسبان دور روسيا العالمي وأهميتها أن نحلل بصورة فعالة وغير متناقضة بنيتها الجيوبوليتيكية الداخلية وأن نصف تلك البنية. وخلافا لمدرسة " الجيوبوليتيكا الداخلية" الأوروبية (ايف لاكوست وأمثاله) الميالة إلى عزل المشاكل المحلية والجهوية عن حساب توزيع القوى على الصعيد العالمي، ففي حالة روسيا يستحيل التجرد عن وزنها العالمي، وعلى هذا فإن جميع مشاكلها الداخلية الخاصة لا تصاغ إلا في إطار الحقل الجيوبوليتيكي التكاملي العام.
روسيا ليست ببساطة واحدة من دول اليابسة. إنها صنف ينتمي إلى المبادئ الأساسية للجيوبوليتيكا ككل. روسيا ( ال heartland "المحور الجغرافي للتاريخ"، اليابسة. روسيا هي الأوراسيا. ومعناها هذا لا يرتبط بالأحلاف، بالإديولوجية، بالتوجه السياسي، أو بطبيعة النظام. وفي حالة روسيا لا يمكن للمسألة أن تطرح حول الخيار بين "الأطلسية" و "الأوراسية". إنها القوة الأوراسية ولا يمكنها إلا أن تكونها. وامتناع روسيا عن لعب دورها في المجموعة العالمية لا يمكن تطبيقه إلا في حال تدميرها الجغرافي الكامل، ففي حال رفض الدولة الروسية لأداء هذه الرسالة مع حفاظها على الكتلة القارية الأوراسية سيظهر عاجلا أم آجلا، وعلى أية حال، وبالضرورة تشكيل سياسي جديد ضمن تلك الحدود نفسها يأخذ على عاتقه مهمة "المحور الجغرافي للتاريخ" ومادامت روسيا موجودة فإنها ستبقى محور القطاع الأوراسي في بعده الكوني.
هذا الطابع يحدد زاوية النظر نحو قضاياها الجيوبوليتيكية الداخلية، وهذه القضايا لا تظهر إلا على الأساس التالي:
بأي صورة وعلى أساس أية منطلقات طبيعية (أو مصطنعة) يمكن الحفاظ على موضوع روسيا الجيوبوليتيكي في حدوده القصوى و مضاعفته في حدود الإمكان، بتوزيع كامل العوامل الجيوبوليتيكية الداخلية بحيث تتوفر بالصورة الأمثل إمكانية التوسع الجيوبوليتيكي الكوني؟
طرح المشكلة بهذه الصورة يفرض من تلقاء نفسه شروط التحليل، ومن الضروري التركيز على، وإعطاء الأولوية في الدراسة ل:
1- إمكانية التوجه نحو المركز من جهة المناطق.
2- إمكانيات توسيع التأثير المكاني للمركز على الأطراف وما يليها.
ويفترض هذا التشديد الواضح على ركيزتين أساسيتين - مفاهيم المركز الجيوبوليتيكي والأطراف الجيوبوليتيكية -. العلاقة بينهما هي التي تشكل حقيقة دراسة الجيوبوليتيكا الداخلية لروسيا.
الجيوبوليتيكا الداخلية والعقيدة العسكرية الروسية
يلعب المجمع الصناعي الحربي دورا بالغ الأهمية في التنظيم الجيوبوليتيكي للآماد الروسية لأن السكان المدنيين في الكثير من الأراضي( وبخاصة القليلة السكان) يرتبطون بالبلدات والقواعد العسكرية. ويرتبط بهذا أيضا توزع المراكز الأساسية للصناعة وما يرتبط باحتياجات ما يسمى " بالصناعة الدفاعية". فبأنموذج المبدأ الحربي ترتبط هيكلية التشكل الجيوبوليتيكي لروسيا.
ولهذه العقيدة العسكرية بدورها عنصران مكملان. توجه القيادة السياسية (والذي يمكن أن يتغير وفقا للعوامل السياسية الداخلية والخارجية) والثوابت الجيوبوليتيكية التي تقيم تلك الأطر التي يمكن أن يتجلى في داخلها النهج السياسي. وهذا العنصر المكمل الثاني (وضع روسيا الجيوبوليتيكي) يؤكد بصورة لا تقبل التأويل، المعنى القاري للقوات المسلحة في روسيا، والتوجه إلى اعتبار العدو الرئيسي المحتمل لروسيا هو الحلف الأطلسي بالذات. وهذا ما يجر وراءه بصورة آلية التوجه القاري لمجموع العقيدة العسكرية، و الأفضلية غير المشروطة للأنواع الإستراتيجية للأسلحة والتهيؤ لنزاع كوني ذي بعد يشمل الكرة الأرضية بأسرها.
وليست مهمة إزاء هذا على الإطلاق الصيغة السياسية التي سيستخدمها هذا النظام. وليس من الضروري على الإطلاق أن تترافق المواجهة الجيوبوليتيكية بمواجهة إيديولوجية. فهذا مرتبط بالموقف المحدد ويمكن أن يترك أثره على الصيغة الفيربالية (أي التصريحات الدبلوماسية المسؤولة) الذي يخفف أو يزيد من قسوة المواجهة الجيوسياسية التي تبقى على ما هي عليه في كافة الظروف. ودون أن تتطلع إلى المعادلة النهائية للعقيدة العسكرية تقوم الجيوبوليتيكا بضرب أطره التي يؤدي خرقها دوت إبطاء إلى نشوب أزمة اجتماعية سياسية شاملة وإلى التمزق الترابي للدولة.
وحتى في حالة التفاهم الاديولوجي الكامل المتبادل مع الأطلسية يجب على العقيدة العسكرية لروسيا أن تحدد الولايات المتحدة والمعسكر الغربي على أنهما العدو المحتمل رقم 1، وانطلاقا من هذا فقط تنبغي إقامة بناء القوات المسلحة في مجموعها. وهو ما سيترك أثره بدوره على البناء العام للجيوبوليتيكا الداخلية لروسيا في معنى أوسع.
العقيدة العسكرية لروسيا ينبغي أن تبقى أوراسية بصورة مطلقة، وفي مثل هذه الحالة ومن هذه الزاوية فقط يمكن تحليل الجيوبوليتيكا الداخلية لروسيا بروح مسؤولة وتحديد خطوط التطور ذات الأفضلية. وبدون ذلك لن يتكهن أي تحليل بغير الانحلال الكارثي للأقاليم الروسية والتفتت الترابي والتفاعل التسلسلي للدمار و التصفية الجيوبوليتيكية الذاتية ومن الناحية النظرية لا يمكن استبعاد مثل هذا الانعطاف للأحداث، و العقيدة العسكرية المعاصرة للفيديرالية الروسية التي لا تضع الولايات المتحدة وحلف الناتو بين "الأعداء المحتملين" ولكن تضعهما في عداد حلفاء روسيا الجيوبوليتيكيين المحتملين في المعسكر الأوراسي تقدم عددا من الأسس لذلك. ولكن انطلاقا من أفق تاريخي وجغرافي أكثر شمولا ينبغي النظر إلى هذا الموقف على أنه "شذوذ مؤقت" سيتم التخلص منه قريبا إزاء أي نظام سياسي باعتباره تطرفا جرى في مرحلة انتقالية معقدة. ويتخذ هذا الموقف أهمية كبيرة بالنسبة للحلف الأطلسي، ولهذا كان من الطبيعي أن تخضع أمثال هذه النماذج لدراسات علماء الجيوبوليتيكا في الدول التالاسوكراتية (البحرية أو الأطلسية). ويجب على الجيوبوليتيكا الروسية التي لا يمكنها أن تكون إلا أوراسية أن تتوجه إلى الآفاق الإيجابية محللة الوضع الفعال و المستقبلي، منطلقة في ذلك من القوانين التاريخية والجيوبوليتيكية لتطور الثنائية القارية والحضارية، وينبغي في مثل هذه الحالة الترخيص بالقول بأن " العقيدة العسكرية الروسية تتطابق مع المنطق القاري وتقوم على ثوابت جيوبوليتيكية صارمة.