الجيوبوليتيكا أداة للسياسة القومية ..القوى البرية مقابل القوى البحرية الانجلو ساكسونية
التبويبات الأساسية
على الرغم من تنوع وجهات النظر في علم الجيوسياسة العالمية، نتعامل مع لوحة واحدة للعالم يمكن أن نسميها اللوحة الجيوبوليتيكية، ولوحة العالم هذه تطمح لأن تدخل في تحليل العمليات التاريخية والعلاقات ما بين الشعوب وما بين الدول عددا من المقاربات التأسيسية (الجغرافية، والمتعلقة بعلم السياسة، والإيديولوجية والاتنوغرافية والاقتصادية وما الى ذلك، وفي هذا يتجسد الطابع الأساسي لكافة النظريات الجيوبوليتيكية.
أما الصيغة المنهجية الأكثر عمومية والمشتركة بين جميع علماء الجيوبوليتيكا فهي توكيد الثنائية الكونية التاريخية بين اليابسة، التيلوروكراتيا، الأرض، الأوراسية، الـheartland، "الحضارة الايديوقراطية"، من جهة، وبين البحر، التالاستوكراتيا، الـsea power، العالم الانجلو ساكسوني، الحضارة التجارية، "الهلال الخارجي، من الجهة الاخرى. وهذا ما يمكن النظر اليه على أنه القانون الأساسي للجيوبوليتيكا. وخارج التسليم بهذه الثنائية تفقد جميع النتائج معناها. فعلى الرغم من كل الاختلافات في الرؤى الخاصة لم يقدم أسي واحد من مؤسسي العلم الجيوبوليتيكي بوضع هذه المقابلة موضع الشك، وهو ما يضارع في معناه قانون الجاذبية الكوني في الفيزياء.
الخاصية الثانية لنظرات مؤسسي الجيوبوليتيكا هي حتمية استخدامهم السياسي. فمن الناحية العلمية لا نجد عالما جيوبوليتيكيا واحدا تم استبعاده عن المشاركة في الحياة السياسية لدولته. فلا بد للجيوبوليتيكي وهو ينطلق الى بحوثه العلمية، من أن يحدد مكانه الخاص على خارطة الاقطاب الجيوبوليتيكية، ويهذا ترتبط زاوية الرؤية التي سيحلل من خلالها كافة الأحداث العالمية، ولا يوجد عالما جيوبوليتيكيا اتسم باللامبالاة نحو دولته أو شعبه أو لم يشاطرهما نوجههما الخلقي او التاريخي. ويتتجلى هذا واضحا عند الاقطاب المتطرفة، فالمؤلفون الأنجلوسكسون يسيرون دون أي إحساس بالحرج، و بطريقة موحدة، وراء منطق و قيم نظام الـsea power أو التالاسوكراتيا عندما يصوغةن نظرياتهم من مواقع المؤيدين للأطلسية دون تحفظ، والأوراسيون الروس على نفس المستوى من الاستجابة في وفائهم لقيم الـheartland أو القوى البرية، فهم أيضا لا يضعون موضع الشك الأفضلية الخلقية والتاريخية للإيديوقراطية ولروسيا.
ويبدو الأمر أكقر تعقيدا بالنسبة للفرنسيين اللذين لديهم الخيار النظري لتحقيق ذاتيتهم الخاصة، - التالاسوكراتية أو التيلوروكراتية – فعليهم في الحالة الأولى أن يتضامنوا نع العالم الأنجلوساكسوني، مع القوى البحرية التجارية، وفي الثانية – مع الميل للألمان، و الاحتمالان يفرضان مشاعر استحسان قومي لا نهاية لها. وهذان الاتجاهان متوفران، من الناحية النظرية بين علماء الجيوبوليتيكا الفرنسيين، إلا أن التصور الجيوبلييتيكي الأكثر رسوخا بينهم هو الذي قدمته مجموعة الاطلسيين.
ولألمانيا موقف مزدوج أيضا، فإذا كان تفكيرها الجيوبوليتيكي موجها في عمومه توجها قاريا أوراسيا، فإن هذا التوجه محكوم بعلاقة معقدة نحو العالم السلافي، نحو آسيا ، و نحو روسيا بصفة خاصة. وقد بلغ هذا التقييد حدا كبيرا من الملموسية كما بلغت محاولات ألمانيا لموازنة وضعها الأوروبي المتوسط مع وضعها الأوراسي المتوسط، متجاهلة بذلك المعنى التاريخي لروسيا- الأوراسيا-. عناد ألمانيا جعلها تضطر في الحربين العالميتين لخوض الحرب ليس فقط ضد الدول التالاسوكراتية بل وحتى ضد حليفها المنطقي الأوراسي ( الاتحاد السوفييتي). ويمكن القول أن القارية ( اللاأوراسية) هي سمة الجيوبوليتيكية الألمانية وهذه الوضعية تلخص التاريخ الألماني بأسره في معادلة جيوبوليتيكية وتحدد مسبقا بنية الوعي القومي ذاتها.
الأميركيان ماهان وسبيكمان، والإنجليزي ماكيندر يمثلون "الهلال الجزيري"، إنهم الناطقون بلسان الأطلسية- التالاسوكراتية.
وفيدال دي لابلاش ( ومدرسته) يمثلون فرنسا الأطلسية. ويميل لافال وديغول نحو القارية " الأوروبوية"، نحو العداء للأطلسية، ومن هنا ينبثق ميلهما المتبادل لحب الألمان، و الذي يقرب جيوبوليتيكيا بينهما على الرغم من انتمائهما لمعسكرين متعاديين، حيث لافال رئيس حكومة فيشي المتعاونة مع العدو، بينما كان ديغول قائد الجيش الفرنسي المعادي للفاشية.
وأخيرا فإن الأوراسيين الروس ( سافيتسكي، تروبتسكوي وغيرهما) يستعرضون أكثر صور القارية اكتمالا بتعبيرهم عن الموقف الأكثر راديكالية ل "نوموس" اليابسة، التيلوكراتية.
بالنسبة للخط الأمريكي الأطلسي ( التالاسوكراتي) في الجيوبوليتيكا فقد تطور من الناحية العملية دون أي انقطاع. فبمقدار تطبيق مشاريع الأمريكيين في إقامة "الدولة العالمية" زاد العلماء الأطلسيون تدقيق الآفاق الجزئية لنظريتهم وزادوها تفصيلا مع تطوير مجالاتها التطبيقية. والأنموذج المؤسس " للقوة البحرية" وأبعادها الجيوبوليتيكية تحول من صياغات علمية لعدد من المدارس العسكرية والجغرافية ليصبح السياسة الرسمية العالمية للولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى ذلك فإن تحول الولايات المتحدة إلى دولة فوق العظمى وخروجها الى المرحلة النهائية للتالاسوكراتيا جعل علماء الجيوبوليتيكا الأمريكيين يتدارسون أنموذجا جيوبوليتيكيا بالغ الحدة تشارك فيه لا القوتان الأساسيتان، بل قوة واحدة فقط. وقد تم وضع صيغتان لتطور الأحداث ، إما الفوز النهائي للغرب في المبارزو الجيوبوليتيكية مع الشرق وإما الجمع بين المعسكرين الإيديولوجيين في واحد وإقامة الحكومة العالمية ( وسمي هذا المشروع " الموندياليزم" ، وقد استدعى هذا الموقف اتجاها خاصا في الجيوبوليتيكا هو "جيوبوليتيكا العولمة".وقد عكف الأمريكيون على صياغة هذه النظرية منذ السبعينات، لكن التصريح بها بصورة علنية لأول مرة تم عام 1991 من طرف جورج بوش رئيس الولايات المتحدة خلال حرب الخليج.