كيفورك ألماسيان: ألكسندر دوغين والفلسفة الكامنة وراء استراتيجية بوتين
تبهای اولیه
كيفورك ألماسيان: ألكسندر دوغين والفلسفة الكامنة وراء استراتيجية بوتين
خلال السنتين الماضيتيْن، استحوذت روسيا والرئيس بوتين بالتحديد، حيزاً كبيراً في نشرات الأخبار الغربية وخاصةً بعد الاستفتاءات الشعبية في شرق اوكرانيا والتي نتج عنها استقلال جمهورتيْ دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وعودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا. مع تسارع الأحداث في اوكرانيا وسوريا وتصاعد حدة التوتر بين القوى الغربية وحلفائها والمعسكر المناهض له، سعت معظم وسائل الإعلام الغربية إلى اتباع سياسة إعلامية ممنهجة تهدف إلى شيطنة بوتين وتخويف الشعوب الغربية وخاصة في بلدان شرق أوروبا من “طموحات بوتين التوسعية”. لكن بالرغم من تصدر الرئيس بوتين عناوين نشرات الأخبار والصحف، إلا أن هناك رجلٌ اَخر، يُدعى ألكسندر دوغين، تقول مراكز الدراسات الغربية بأنه “العقل المدبر” لسياسات بوتين الجيوسياسية، وبالتحديد في منطقة أوراسيا.
البروفيسور دوغين هو مستشار رئيس مجلس الدوما الروسي الأسبق غينادي سيليزنيوف ثم رئيس مركز التجربة الجيوسياسية ومجلس الأمن القومي لدى رئيس مجلس الدوما، عالم فلسفة ومنظّر سياسي واجتماعي ومؤسس الحركة “الأوراسية الجديدة”، ومؤلف لأكثر من 30 كتاباً، أهمها “أسس الجغرافيا السياسية” و “النظرية السياسية الرابعة”. توازي قيمة أبحاث دوغين كتابات زبغنيو بريجنسكي وهنري كسنجر، فأصبحت أعماله تستقطب القراء، خاصة في صفوف العلماء السياسيين خارج الحدود الجغرافية لروسيا الاتحادية، ما أدى إلى دق ناقوس الخطر عند المفكرين السياسين لدى الولايات المتحدة واوروبا الذين احتكروا التنظير السياسي منذ عقود، فما يقدمه دوغين من نظريات وأفكار سياسية واجتماعية بات تشكل تحدياً جدياً للمعايير الليبرالية السائدة عند الغرب. فالحركة الأوراسية تعارض الهيمنة العالمية للغرب، والشمولية الأوروبية، وتدعم الحضارة الروسية الأرثوذكسية، ولذا، فإن الأوراسية، في الواقع، هي أيديولوجية معادية للغرب بمعنى أنها ترفض حق المجتمع الغربي لفرض معايير الخير والشر وتسويقها وكأنها قاعدة عالمية. لا يعارض الأوراسيون فقط الهيمنة الغربية والتوسعية الأمريكية، بل يرون في القيم الليبرالية خطراً على الحضارة الروسية والمجتمع الأرثوذكسي المحافظ، وبالتالي، فإن الروس الغربيين “Westernized Russians” أو الليبراليين، هم خصوم الأوراسيين أيضاً.
بدأ نشاط دوغين السياسي في حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، حين أسس حركة سياسية معارضة في روسيا سُميت بـ”الأوراسيين الجدد”. ركزت هذه الحركة نشاطها السياسي ضد الرئيسيْن ميخائيل غورباشيف وبوريس يلتسن، بسبب تبنّيهما لسياسات متناغمة مع توجهات البيت الأبيض. على عكس الشيوعيين الذين يحلمون باعادة إنشاء الاتحاد السوفييتي، والقوميين الروس الذين تبنوا مشروع “روسيا الكبرى”، قدَّم الأوراسيون الجدد فكرة “الأمبراطورية الأوراسية” التي يقولون من الممكن تأسيسها بتعزيز القوة الجيوسياسية لروسيا والتكامل بين المحاور البرية بزعامة روسيا والذي يشكل فيه العالم العربي أحد أحزمته الثلاث (الأورو أفريقي) إلى جانب الحزام الأوراسي ومثيله الباسيفيكي والذي عليه يُبنى أمل الحدّ من هيمنة القطب الأميركي. يقول دوغين إن الشرق الأوسط نقطة صدام جيوبوليتيكي مع الولايات المتحدة وانتصار روسيا فيه يجب أن يكون حتمياً. لكن المشروع الأوراسي في المنطقة يقف أمامه عائقان: الأول يخصّ المضمون الإيديولوجي للمشروع العروبي، وهذا أمر متروك -بالنسبة إلى دوغين- للعرب. وهو يدخل في باب المقدور عليه. أما الأمر الثاني والذي يستحيل معه تحقيق المشروع؛ فهو المنطلق الأصولي– الإسلامي، ورغبة بعض الحركات الإسلامية في إقامة دولة الخلافة.
أهمية أوراسيا ليست مقتصرة فقط على روسيا، بل للولايات المتحدة أيضاً، وهو ما أكد عليه مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، زبغينو بريجنسكي، الذي قال متأثراً بشدة بما كتبه المتخصص في الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتكا)، هالفورد ماكندر من قبل: «انتقل علم الجيوبوليتيك من البعد الإقليمي إلى البعد الكوني. مع وجود أهمية استثنائية لمنطقة أوراسيا في المصالح الكونية الأميركية. وأميركا باعتبارها قوة لا تنتمي إلى أوراسيا تمدّد سيطرتها إلى الحواف الثلاث لمنطقة أوراسيا، والعدو المحتمل لأميركا في أي سياق تنافسي دولي مقبل لا بدّ له أن يسيطر على منطقة أوراسيا. وهكذا يتوجّب على أميركا أن تمنع أياً من القوى الكبرى، روسيا أو الصين أو القوى الإقليمية الصاعدة مثل إيران وتركيا، من السيطرة على منطقة أوراسيا».
بناء على ما سبق، يمكننا القول أن منطقة اوراسيا كانت وماتزال ساحة صراع مفتوحة بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة، وتحدد نتيجة هذا الصراع مستقبل النظام العالمي لأن “من يحكم الجزيرة العالمية (اوراسيا) يسيطر على العالم كله”، بحسب ماكندر.
بالرغم من أهمية أوراسيا في العقيدة الروسية، تعرضت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لمشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية جمة، وأثر هذا الأمر بشكل كبير على أداء وفعالية سياسات موسكو الخارجية على مستوى «النظام الدولي»، فاستفردت الولايات المتحدة في التحكم بمقاليد السياسات الدولية وصاغتها بالشكل التي تخدم مصالحها الاستراتيجية، والتي كان أهمها الحفاظ على الهيمنة المطلقة واقصاء المتمردين لميزان القوة هذا، تارة بالعقوبات الاقتصادية والتدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة، وتارة أخرى بتصديرها للوصفة الديمقراطية عبر ما يسمى بـ«الثورات الملونة»، على مبدأ:
If you don’t come to democracy, democracy will come to you
لم يكن لدى الخبراء والمؤرخين السياسيين أدنى شك في حتمية صعود روسيا مجدداً، لإمتلاكها الكثير من مقومات القوة العظمى، ولكن كان عليها أولاً التعافي من أمراضها الداخلية التي نهشت جسد موسكو وأصابتها بالشيخوخة المبكرة، فشاء القدر أن يأتي رجلٌ غيَّر بصعوده إلى الحكم واجهة السياسة الخارجية الروسية. كان اسم هذا الرجل: فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين.
منذ ذلك الحين، عرض دوغين على الكرملن أفكار النزعة الأوراسية المحافظة بصفتها قاعدة أيديولوجية للسلطة الروسية الجديدة. وخلال هذه الفترة، عارض دوغين ثلاث نظريات رئيسية للقرن العشرين: وهي النظرية الليبيرالية والنظرية الشيوعية والنظرية الفاشية، وقدَّم البديل العلمي الذي سماه “النظرية السياسية الرابعة”، وقال بأن روسيا في عهد بوتين تسير وفقاً لنظريته.
ملخص النظرية هو أن روسيا التي مرت بمرحلتي الشيوعية والليبيرالية، يتوجب عليها الآن الدخول في مرحلة جديدة تعتمد على رؤية سامية تعم الفضاء الأوراسي الواسع، والسعي على إحداث تغيير عالمي على أسس أخلاقية جديدة وليس على قيم مادية استهلاكية برجوازية. ولتحقيق هذا الأمر، يسعى دوغين إلى الترويج لثورة روسية وطنية محافظة، تتصف بالجمع بين الأصالة والوفاء للتقاليد والأخلاق الوطنية من جهة والبرنامج الاقتصادي اليساري الذي يقضي بالعدالة الاجتماعية والحد من فوضى السوق والتخلص من عبودية الفوائد وحظر المضاربة في البورصة والاحتكارات وانتصار العمل النزيه على السعي الى كسب المال من جهة أخرى.
بقي المشروع الأوراسي في إطار التنظير السياسي حتى اندلعت الانتفاضة في سوريا عام 2011 وحدث الانقلاب ضد الرئيس الاوكراني السابق عام 2014، ما دفع روسيا الى التدخل ودعم عمليات استقلال جمهورتي دونيتسك ولوغانسك، وضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، ودعم نظام الحكم في سوريا بكل الوسائل المتاحة، اَخرها توجيه ضربات جوية ضد معاقل الكتائب المسلحة ضد الرئيس الأسد. منذ بداية الأزم السورية، حثَّ دوغين الرئيس بوتين للدفاع عن سوريا بكل قوة، ودعى إلى معالجة الملف السوري من المنظور الجيوبوليتيكي، فدمشق هي العاصمة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي يمكن الاعتماد عليها في المشروع الأوراسي، كما تدعم سوريا قولاً وفعلاً الانتقال إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، حيث لا تستطيع الولايات المتحدة والمعسكر الغربي التحكم بالمسائل التي تهم الأمن والسلم الدوليين.
وفي هذا السياق، يمكننا ربط سياسات بوتين الأخيرة في كل من اوكرانيا وسوريا بما كتبه العقل الموجه للأوراسيين الجدد، البروفيسور دوغين، في كتابه “Foundations of Geopolitics” حين قال: “من حيث المبدأ، أوراسيا ومحيطها، مركزها روسيا، تبقى منطقة انطلاق الثورات المناهضة للولايات المتحدة الأميركية والبرجوازية”.
من أجل فهم أفضل للعقل الجيوبوليتيكي الروسي في سوريا وخاصة في المنطقة الساحلية، يجب الغوص في مرحلة الحرب الباردة حين وصف دوغين هزيمة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة بأنها انتصار لحضارة البحر على حضارة اليابسة من وجهة النظر الجيوسياسية. فروسيا التي تمثل مساحة كبيرة من خريطة العالم -ربما أكثر من ربع مساحة العالم- لم تكن قادرة على النفاذ إلى البحار الدولية وهي نقطة ضعف كبيرة تجعل روسيا في شبه حصار، وهذا ما حدث في مواجهة بريطانيا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ومن بعدها الولايات المتحدة الأميركية في القرن العشرين، فالحرب الأولى التي دارت بين إنجلترا وروسيا القيصرية انتهت بهزيمة روسيا القيصرية، والحرب الثانية التي دارت بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق ومجموعة الدول الاشتراكية انتهت أيضاً بانتصار الولايات المتحدة الأميركية، وفي كلا الانتصارين لم تكن الأيديولوجيا هي المحرك للصراع بل كانت الجغرافيا والمصالح التي تترتب فوق أرضية الجغرافيا. هذا يعني أن الصراع العالمي يدور أساساً بين القوى البرية والقوى البحرية، وليس بين القوى الرأسمالية أو الاشتراكية كما يعتقد الكثيرون. لذلك، نعتقد أن الكرملن لن يتردد في الدفاع عن هذه المصلحة الجيوسياسية، حتى لو اقتضى الأمر صراعاً عسكرياً طويلاً في سوريا. فروسيا بدفاعها عن سوريا تحافظ على نفوذها كقوة دولية عظمى وتدافع عن وجودها في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.